رانية عقل: حين صار اللباس أكثر من حاجة!

** قراءة مجتمعية في الموضة، الاستهلاك العاطفي، وأثره البيئي
لم يكن اللباس في بداياته الأولى تعبيرًا عن هوية أو مكانة اجتماعية، بل استجابة مباشرة لحاجتين إنسانيتين أساسيتين: ستر الجسد وحمايته من عوامل الطبيعة. في السرديات الإنسانية الأولى، كان الهدف من اللباس مرتبطًا بالكرامة والبقاء، لا بالتميّز أو الاستعراض. غير أنّ هذا المعنى البسيط بدأ يتغيّر تدريجيًا مع تطوّر المجتمعات، حين انتقل اللباس من كونه حاجة وظيفية إلى رمز اجتماعي يحمل دلالات القوة والمكانة والطبقة.
مع ظهور الأقمشة النادرة والألوان المرتبطة بالسلطة، مثل الحرير والأرجوان والذهب، بدأ اللباس يُستخدم كأداة فرز اجتماعي. لم يعد السؤال المطروح: هل يلبّي هذا اللباس حاجتي الجسدية؟ بل أصبح: ماذا يقول هذا اللباس عني في نظر الآخرين؟ ومع هذا التحوّل، انفصل اللباس تدريجيًا عن وظيفته الأصلية، ودخل في منظومة رمزية تُقاس فيها القيمة الإنسانية بما يُرتدى لا بما يُعاش.
في العصر الحديث، بلغ هذا التحوّل ذروته مع صعود ما يُعرف بالموضة السريعة. لم تعد الملابس تُنتَج لتدوم، بل لتُستبدل بسرعة، ضمن دورة استهلاكية متسارعة. في هذا السياق، لم يعد الشراء فعل تلبية حاجة بقدر ما أصبح فعلًا عاطفيًا. يشتري الناس الملابس استجابة للتعب، أو الفراغ، أو الرغبة في الشعور بالانتماء والسيطرة والاعتراف.
غير أنّ هذا الإشباع العاطفي مؤقّت، ما يدفع إلى تكرار الشراء، وتراكم القطع في الخزائن، دون أن يرافقه شعور حقيقي بالاكتفاء.
خلف هذه الدورة الاستهلاكية، تقف كلفة بيئية واجتماعية باهظة غالبًا ما تبقى غير مرئية. تعتمد نسبة كبيرة من الملابس المعاصرة على أقمشة صناعية مثل البوليستر والأكريليك والنايلون، وهي مواد مشتقة من النفط، ذات أثر مباشر على البيئة وعلى صحة الإنسان.
كما تتطلّب صناعة الملابس كميات هائلة من المياه والطاقة، وتُسهم في تلويث الأنهار بالأصباغ الكيميائية، إضافة إلى ظروف العمل القاسية التي يعيشها ملايين العمّال في سلاسل الإنتاج العالمية مقابل أجور متدنّية.
حتى حين يُطرح بديل “الملابس البيئية”، نادرًا ما يُناقش بعمق. قلّما نسأل عن الأثر الكامل للقطعة: كم استُهلك من الماء لإنتاجها؟ كم أرضًا أُنهكت؟ وكم يدًا عملت في ظروف صعبة لإنجازها؟ بذلك، يتحوّل الاستهلاك “الواعي” أحيانًا إلى شكل آخر من أشكال التخفيف الرمزي للذنب، دون تغيير جوهري في المنظومة.
تظهر هذه الإشكالية أيضًا في ممارسات التبرّع بالملابس. حين تمتلئ الخزائن، يُفرغها الناس ويشعرون بأنهم أدّوا واجبهم الأخلاقي. غير أنّ هذا الفعل لا يكون دائمًا ملائمًا لواقع من يتلقّى هذه الملابس. كثير من القطع المتبرَّع بها لا تناسب المناخ، ولا طبيعة العمل، ولا نمط الحياة في المجتمعات التي تصل إليها.
תفي هذه الحالات، لا تكون الصدقة مشاركة في الكرامة بقدر ما تكون نقلًا للفائض، من دون مساءلة حقيقية للحاجة الفعلية.
على المستوى التربوي، ساهمت هذه الثقافة في ترسيخ قيم تُقدّم المظهر على الجوهر، وتربط قيمة الإنسان بما يرتديه لا بما هو عليه. نشأ جيل من النساء والرجال على حدّ سواء—في بيئة تُمجّد الجديد والعلامة التجارية، وتقلّل من شأن البساطة والاكتفاء.
ومع هذا التحوّل، تراجعت مفاهيم الامتنان والدهشة، وارتفع الثمن البيئي والاجتماعي والنفسي الذي يدفعه الأفراد والمجتمعات.
من هنا، قد لا يكون التحدّي الحقيقي هو تقليل الشراء فحسب، بل إعادة صياغة الأسئلة التي نطرحها قبل الاستهلاك. بدل السؤال عن السعر أو الشكل، قد يكون من الأجدى التساؤل عن الحاجة الفعلية، وعن مسار القطعة منذ إنتاجها وحتى مصيرها النهائي. إعادة اللباس إلى معناه الأول – كفعل ستر وحماية واحترام للجسد – قد تشكّل مدخلًا أوسع لإعادة بناء علاقة أكثر توازنًا مع الأرض ومع أنفسنا.
في النهاية، لا تعكس أزمة الملابس خللًا في الأقمشة بقدر ما تكشف عن أزمة علاقة. علاقة الإنسان بجسده، وبمشاعره، وبالبيئة التي توفّر له ما يلبس. وإعادة النظر في هذه العلاقة قد تفتح الباب أمام بساطة أعمق، يكون فيها “الكافي” قيمة، لا نقصًا.
** رانية عقل فنانة تشكيلية ومرشدة بيئية من كفر قرع
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com



