د. علي خليل جبارين: الأسرة النواة.. أزمة مهملة تهدد الاستقرار المجتمعي!

لم تعد أزمة الأسرة النواة في المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني شأنا اجتماعيا خاصا أو قضية هامشية تترك للأفراد, بل تحولت إلى واحدة من أخطر الأزمات البنيوية التي تمس الاستقرار المجتمعي وتغذي مظاهر العنف والتفكك. فالأسرة النواة, المكونة من الوالدين والأبناء, ليست مجرد إطار معيشي حديث حل محل الأسرة التقليدية الممتدة, بل الحاضنة الأولى لغرس القيم, وبناء الانتماء, وضبط السلوك الفردي والاجتماعي. غير أن هذا الدور يتآكل اليوم بصمت مقلق, في ظل غياب رؤية شاملة ومسؤولية مؤسسية واضحة.
هذه الأزمة ليست قدرا اجتماعيا او حالة طبيعية, بل نتيجة مباشرة لسياسات اقتصادية وإسكانية اقصائية فاشلة, وتقصير مؤسسي مزمن, إلى جانب انعدام تكافؤ الفرص في سوق العمل, مما جعل من الاستقرار الأسري حلما بعيد المنال لدى شرائح واسعة من الشباب وأفرغ الأسرة من دورها التربوي وحولها من مصدر أمان إلى واقع مثقل بالضغوط.
الأخطر من ذلك أن هذه الأزمة تدار وكأنها افتراضية او غير موجودة. فبين سياسات حكومية تتجاهل الاحتياجات الحقيقية للمجتمع العربي, وسلطات محلية تعاني من سوء التخطيط والمحسوبيات وغياب المهنية, تترك الأسرة وحيدة في مواجهة الانهيار. وفي المقابل, يسود خطاب رسمي فضفاض يحمل الأفراد مسؤولية فشل لم يصنعوه, بل فرض عليهم, ويستبدل الحلول الجذرية بالوعود الوهمية و الخطابات التي تفتقر إلى رؤية تنفيذية.
إن انعكاسات تفكك الأسرة لا تقف عند حدود البيت, بل تمتد مباشرة إلى النسيج المجتمعي. فارتفاع منسوب العنف وتفشي الجريمة وجنوح فئات من الشباب ليست ظواهر منفصلة, بل نتائج طبيعية لغياب الاستقرار الأسري وضعف الاحتواء والتوجيه. وحين تفقد الأسرة قدرتها على أداء دورها, يخسر المجتمع أحد أهم قلاعه و خطوط دفاعه, وتتحول القيم إلى شعارات جوفاء لا تجد من يحميها أو يترجمها إلى سلوك.
ورغم وضوح حجم الأزمة, لا تزال المعالجات المطروحة سطحية ومجزأة. المبادرات الكلامية والوعود الشكلية وحدها لا تبني أسرة مستقرة, وتحميل الوالدين أعباء تفوق طاقتهم دون توفير مقومات العيش الكريم هو شكل آخر من التنصل من المسؤولية. المطلوب رؤية متكاملة تقوم على تعزيز تربية دينية مستنيرة تترجم إلى ممارسة عملية تصل إلى كل بيت, توفير فرص عمل تحفظ كرامة الشباب, سياسات اقتصادية وبنيوية عادلة, دعم برامج الإرشاد الأسري والتأهيلي وبناء شراكة فعلية بين الأسرة والمؤسسات المدنية, وليس استعمال هذه المؤسسات كبدائل وهمية عن دور الدولة.
ختاما, إن حماية الأسرة النواة ضرورة أخلاقية, اجتماعية وأمنية لها علاقة مباشرة بأمن وسلامة افراد المجتمع العربي في الداخل. فالبيت الذي لا يشعر فيه افراده بالأمان لا يمكن أن يخرج مواطنا متوازنا, والمجتمع الذي يهمل أسرته يوقع بيديه على اندثاره وفنائه. وكما ذكر الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا﴾, فالبيت المستقر هو أساس الطمأنينة ومنطلق بناء مجتمع متماسك وقادر على الصمود. فمن الأسرة القوية يبدأ الاستقرار ومن البيت الآمن تصنع الأجيال القادرة على بناء حاضر امن و غد افضل. وكما عبر يوسف السباعي أحد أبرز الكتاب والروائيين المصريين في القرن العشرين قائلا: “الأسرة هي الوطن الأول, ومن خلالها يتعلم الإنسان معنى الحب والوفاء والمسؤولية”. فمن الأسرة النواة القوية ينطلق الاستقرار, ومن البيت الدافئ تتفجر الطاقات لبناء مجتمع متماسك, آمن وقادر على صناعة مستقبل أفضل لجميع أبنائه. فكلما كانت النواة التي تنطلق منها الأشجار أكثر سلامةً وصلابة, استطاعت أن تعلو في السماء وتتحول إلى مصدر عطاء وارف الظلال. أما إذا نبتت الأشجار من نواة ضعيفة أو معطوبة, فلن تصمد أمام أبسط العواصف أو الأزمات.
و الله الموفق و المستعان

من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى