سعيد العفاسي: قراءة في مسرحية “المهرج”.. نزعة قومية نوستالجية تحنّ إلى الماضي أكثر مما تؤسس للمستقبل

تقوم مسرحية “المهرّج” لمحمد الماغوط، وإخراج ممدوح قدح على بنية ميتامسرحية واعية بذاتها، إذ تنطلق من فضاء هامشي هو المقهى، بما يحمله من دلالات اجتماعية وثقافية، بوصفه مكاناً للاجتماع العابر، وللثرثرة اليومية، ولإنتاج خطاب شفهي غير مؤسسي، وللمراقبة، في هذا الفضاء، تقدّم فرقة مسرحية عروضاً قصيرة، أقرب إلى الاسكتشات، تتداخل فيها السخرية بالاحتجاج، واللعب بالجد، في محاولة لقول ما تعجز الخطابات الرسمية عن قوله. من بين هذه العروض، مسرحية تتناول شخصية عبد الرحمن الداخل، الملقّب بصقر قريش، بوصفه رمزاً تاريخياً من رموز الفتوحات الأموية ومؤسس الدولة الأموية في الأندلس، غير أنّ تقديم هذه الشخصية لا يتم وفق منطق التمجيد الكلاسيكي أو الاستعادة البطولية المألوفة، وإنما عبر تمثيل هزلي يقوم على تشويه الوقائع التاريخية وتبسيطها، وتحويل الرمز إلى مادة للتهكم واللعب المسرحي، هذا التقديم الساخِر لا يهدف، في ظاهره، إلى إعادة قراءة التاريخ بقدر ما يعكس علاقة الحاضر العربي المأزوم بذاكرته الجماعية، حيث يغدو التاريخ مادة استهلاك رمزي فاقدة للهيبة والمعنى. يؤدي هذا التلاعب بالرمز التاريخي إلى كسر الحاجز بين الماضي والحاضر، حين يستيقظ صقر قريش من قبره، غاضباً وممتعضاً من هذا الحفيد الذي يتجرأ على العبث بإرثه، إن هذا الاستيقاظ ليس حدثاً خارقاً بقدر ما هو مجاز درامي كثيف، يكشف عن توتر عميق بين زمنين غير متكافئين، زمن المجد المتخيَّل، وزمن الانكسار الراهن، فعودة الشخصية التاريخية إلى الحياة ليست استعادة للماضي فقط، أو تقديم عبرة للحاضر لمن لا يعرف، ولكن هي محاكمة للحاضر، ومحاولة لفهم كيف انقلب الإرث إلى مهزلة، والبطولة إلى قناع. من هنا تتولد المفارقة الدرامية الأساسية في المسرحية، حيث يتواجه صقر قريش، بوصفه رمزاً للقوة والتأسيس، مع واقع عربي معاصر يتسم بالهشاشة والعبث وفقدان المعنى، وتتخذ هذه المواجهة شكلاً مزدوجاً، يجمع بين الكوميديا والتراجيديا، بحيث تتحول الضحكة إلى أداة كشف، ويغدو الضحك نفسه فعلاً مأساوياً، لأنه صادر عن وعي بالعجز لا عن فائض قوة. فالهزل هنا ليس بريئاً، ولكنه مدسوس بفعل قصدي للتعبير عن انكسار العلاقة مع التاريخ، وعن فقدان القدرة على التعامل معه إلا عبر السخرية. وتتسع دائرة المقارنة لتشمل مستويات حضارية وثقافية متعددة، إذ لا تقف المسرحية عند حدود المفاضلة بين الماضي والحاضر، وإنما تفتح سؤالاً أعمق حول معنى المجد ذاته، وحول آليات استحضاره في الخطاب العربي المعاصر. فالماضي، كما تقدّمه المسرحية، حقيقة منجزة، بل بناءً سردياً يُعاد تشكيله وفق حاجات الحاضر، بينما الحاضر يبدو عاجزاً عن إنتاج رموزه الخاصة، فيلجأ إلى اجترار رموز قديمة، إما بتمجيد أعمى أو بسخرية مفرغة من أي أفق نقدي فعّال.

في هذا السياق، يتحول “المهرّج” إلى وسيط رمزي بين الزمنين، وإلى مرآة تعكس التشوهات التي تصيب الوعي التاريخي العربي. فالمسرحية لا تدين تشويه التاريخ بقدر ما تكشف عن أسبابه العميقة، غياب المشروع الحضاري، وانقطاع الاستمرارية بين الفعل التاريخي والمعنى الإنساني، وتحول الذاكرة من طاقة نقدية إلى عبء نوستالجي، عودة صقر قريش إلى الحياة ليست محاولة لتصحيح التاريخ، بقدر ما هي علامة على مأزق الحاضر، الذي لم يعد قادراً على محاورة ماضيه إلا عبر الصدام، ولا على تخيّل مستقبله إلا من خلال أشباح الأمس.

في مسرحية “المهرّج” تبرز شخصية المدقّق اللغوي (ضمير اللسان العربي) بوصفها حضوراً لافتاً، لا من حيث زمن ظهورها فحسب، وإنما من حيث دلالتها الرمزية العميقة، فهي ليست شخصية عابرة تؤدي وظيفة تقنية محدودة، بل تمثّل، في جوهرها، سلطة ملاحِظة ومراقِبة، أقرب إلى ضمير نقدي يتدخل كلما اختلّ النسق اللغوي أو انحرفت العبارة عن سلامتها. إنّ تمسّك هذا المدقّق باللغة، وتصحيحه المتواصل للأخطاء، لا يمكن قراءته قراءة لغوية محضة، بقدر ما هو إشارة إلى علاقة عضوية بين تماسك اللغة وتماسك المجتمع، وبين سلامة القول وسلامة الفعل الحضاري، يبدو المدقّق اللغوي هنا وكأنّه يعلن، بصمتٍ أو بتدخل مقتضب، أن الازدهار والتقدم لا ينبعان من الشعارات الكبرى وحدها، بل من البنية العميقة للخطاب، من دقته وانضباطه وقدرته على إنتاج المعنى دون تشويه أو التباس. فاللغة، في هذا السياق، ليست أداة محايدة، هي الحاضنة الأولى للفكر، وإذا فسد اللسان اختلّ الوعي، وتداعى النظام الرمزي الذي يقوم عليه الاجتماع الإنساني، غير أنّ المفارقة الدرامية تتجلّى في الهيئة التي ظهر بها هذا المدقّق، يحمل كتباً ثقيلة في المعنى خفيفة في الوزن، لكنه هزيل الجسد، شارد الذهن، مريض، يكاد يخلو من الحيلة والقوة. وهذه الصورة ليست اعتباطية، بل تنطوي على نقد لاذع لمكانة المعرفة واللغة في الواقع العربي المعاصر؛ حيث تُحمل الثقافة عبئها الرمزي كاملاً، لكنها تُترك بلا حماية اجتماعية أو سياسية. فالمدقّق اللغوي يعرف مواضع الخلل، لكنه عاجز عن إصلاح البنية الكلية، وتدخله يظل جزئياً، مؤقتاً، ومهمّشاً، ومن هنا يتولّد إحساس بالفقد، إذ لو أن هذه الشخصية استمرّت طيلة العرض، لا لتصحيح الأخطاء اللغوية فحسب، وإنما لتقويم الاعوجاج الأعمق في السرد التاريخي ذاته، فلو مُنح هذا المدقّق حضوراً دائماً، لتحوّل إلى سلطة تأويلية تراجع الخطاب، وتفكك التاريخانية، وتعيد مساءلة التاريخ من داخل لغته، لا من خارجه، عندئذ، كان يمكن للمسرحية أن ترتقي من مستوى السخرية والاحتجاج المباشر إلى أفق فلسفي أرحب، حيث تصبح اللغة أداة نقد للتاريخ، والتاريخ مادة لمساءلة الحاضر. إن غياب المدقّق اللغوي المبكر يترك فراغاً دلالياً، ويكشف عن فرصة جمالية وفكرية مهدورة، فهذه الشخصية، لو استثمرت بالكامل، لكانت قادرة على منح المسرحية عمقاً مضاعفاً (درامي كومدي) يجعلها نصاً لا يكتفي بإدانة الواقع، وإنما ينخرط في تفكيك شروط إنتاجه الرمزي، بدءاً من اللغة، بوصفها الجذر الأول لكل انحراف أو نهوض محتمل.

يأتي توظيف الأقفاص في السينوغرافيا بوصفها علامة بصرية كثيفة الدلالة، لا تقتصر على بعدها الشكلي، ولكنها تنفتح على أفق رمزي عميق يحيل مباشرة إلى استمرار الاستبداد، وهيمنة الحكم الجائر، وترسّخ منطق السلطة الواحدة المغلقة. فالقفص، بما يحمله من معنى الحجز والمنع والعزل، لا يمثّل مجرد عنصر ديكوري في الفضاء المسرحي، بل يتحوّل إلى استعارة سياسية وأخلاقية تختزل علاقة السلطة بالفرد، حيث يُختزل الجسد الإنساني إلى كائن مراقَب، محاصر، ومجرد من حريته. ورغم أنّ السينوغرافيا لم تعتمد إلا قفصاً واحداً من الناحية المادية، فإن حضوره كان كافياً لاستدعاء شبكة كاملة من الأقفاص الغائبة التي تتكاثر في الوعي الجمعي للمشاهد. فالقفص الواحد لا يعمل بوصفه مفردة منفصلة، وإنما بوصفه نموذجاً رمزياً قابلاً للاستنساخ، بحيث يصبح الفضاء كله قفصاً متخيّلاً، وتتحول الخشبة إلى سجن مفتوح، حتى في اللحظات التي لا يظهر فيها القيد مادياً. وهنا تتجلّى قوة الرمز، حين يغدو الحضور الجزئي أبلغ من الاكتمال الحرفي. غير أنّ هذه الإمكانية الرمزية العالية لم تُستثمر استثماراً كاملاً، إذ لم يُستكمل الاشتغال السينوغرافي على دلالة القفص بما يكفي لتمكين الوعي البصري للمشاهد. فالعنصر السينوغرافي، لكي يؤدي وظيفته النقدية، يحتاج إلى علاقة جدلية واضحة مع حركة الممثلين، وتوزيع الفضاء، والإضاءة، والإيقاع البصري العام. أما الاكتفاء بعلامة واحدة دون تفكيكها أو توسيع اشتغالها، فيجعل الرمز عرضة للانغلاق، ويحدّ من طاقته التأويلية. كان بالإمكان، لو جرى تعميق الرؤية السينوغرافية، أن يتحول القفص إلى مركز دلالي يتناسل منه المعنى، لا بوصفه أداة قمع فقط، ولكن باعتباره بنية ذهنية تحكم العلاقات الاجتماعية والسياسية. فالقفص لا يحبس الأجساد وحدها، بل يقيّد اللغة، ويصادر الخيال، ويعيد إنتاج الخضوع في صور متعددة. ومن هنا، فإن السينوغرافيا، حين تُفهم بوصفها خطاباً موازياً للنص، تصبح قادرة على مساءلة الاستبداد عبر تشكيل الفضاء ذاته بوصفه نصاً مرئياً لا عبر الخطاب المباشر. إن عدم تتبّع الأثر الرمزي للقفص، وعدم توسيع حضوره ضمن الفضاء المؤثث، حرم العرض من اكتمال فكرته البصرية. فالسينوغرافيا لا تكتمل بمجرد الإشارة، وإنما بتكثيف العلامة وتحويلها إلى تجربة حسية شاملة، تُشرك المتلقي في عملية التأويل، وتدفعه إلى إدراك أن القفص المعروض على الخشبة ليس سوى صورة مكثفة لأقفاص كثيرة تحيط به خارج المسرح.

نجح الممثلون في مسرحية “المهرج” في تشخيص الشخصيات الموكلة إليهم بدرجة عالية من الوعي الفني والانضباط الجمالي، وهو ما تجلّى بوضوح في قدرتهم على تعدد الأدوار دون الوقوع في فخ التكرار أو الالتباس، فقد استطاع كل ممثل أن يخلق شخصيته بوصفها كيانًا مستقلًا، له منطقه الداخلي وإيقاعه الخاص، مستندًا إلى أدوات التمثيل الأساسية من تقمّص وحركة وحوار وإيماءة، في انسجام عضوي يعكس فهمًا عميقًا لطبيعة الفعل المسرحي بوصفه فعلًا تركيبيًا لا يكتمل إلا بتكامل هذه العناصر، لقد شكّل رسم معالم الشخصية بدقة إحدى الركائز الأساسية لنجاح العرض، إذ لم تكن الشخصيات مجرد أقنعة عابرة أو أنماط جاهزة، بل جاءت محمّلة بدلالات نفسية واجتماعية، تُفصح عن ذاتها تدريجيًا عبر الأداء، لا عبر الخطاب المباشر. فالجسد الممثل لم يكن أداة حركة فحسب، وإنما تحوّل إلى لغة قائمة بذاتها، تنقل التوترات الداخلية والتحولات الشعورية، وتُجسّد الصراع الدرامي في بعديه الفردي والجماعي. أما الحوار، فقد أُنجز بوصفه امتدادًا للفعل، لا انفصالًا عنه، حيث تضافرت الكلمة مع الإيماءة والنبرة لتشكّل خطابًا مسرحيًا مركّبًا، يتجاوز المعنى الظاهر إلى أفق رمزي أوسع. وفي هذا السياق، برزت قدرات الممثلين التقنية والتعبيرية في التحكم بالإيقاع العام للعرض، وفي الانتقال السلس بين الحالات الشعورية المختلفة، بما يخدم البناء الدرامي ولا يخلّ بتوازنه. لقد شدّ الأداء انتباه الجمهور طيلة زمن العرض من خلال بناء علاقة تفاعلية قائمة على التوتر الدرامي والتشويق الفكري. فكان المتلقي شريكًا في إنتاج المعنى، لا مجرد شاهد سلبي، إذ وجد نفسه منخرطًا في شبكة الدلالات التي نسجها الأداء، ومتورطًا وجدانيًا وفكريًا في الأسئلة التي يطرحها العرض. وهنا يمكن القول إن اللعب المسرحي تجاوز وظيفته التمثيلية الضيقة، ليتحوّل إلى واقع فني مُقنع، يشتغل على مستوى الوعي ويعيد تشكيله. فقد نجح الممثلون في خلق ما يشبه “الزمن المسرحي الكثيف”، حيث تداخل الماضي بالحاضر، والذاتي بالعام، في بنية درامية جعلت المتلقي يشعر بأنه داخل اللحظة التي يراد الإشارة إليها، لا خارجها. وبهذا المعنى، أسهم الأداء التمثيلي في ترسيخ البنية الفكرية للعرض، وفي نقل المتلقي إلى قلب الإشكالية التي تطرحها المسرحية، مؤكّدًا أن نجاح “المهرج” لم يكن نتاج النص أو الإخراج وحدهما، بقدر ما كان ثمرة أداء تمثيلي واعٍ أدرك أن المسرح فعل تفكير بقدر ما هو فعل تمثيل.

على الرغم من الكثافة الدلالية لعنوان مسرحية “المهرج” لمحمد الماغوط، فإنه لم يحط بالبنية الفكرية الكلية للنص، وظل يلامس أحد محاوره دون أن يستوعب مجمل الأفق الدرامي، فـ”المهرج” لا يحتل موقع البطل المركزي بقدر ما يقوم بدور المُحرّك الدينامي للحدث، والوسيط النقدي الذي يفضح منظومات الفساد والاستبداد، ويفضح تواطؤ السلطة مع ضياع الأرض العربية وبيعها، رمزياً ومادياً، في سوق المصالح السياسية الرخيصة، إنّه شخصية تقف في منطقة الالتباس بين السخرية والاحتجاج، بين الهزل والمرارة، ليغدو “المهرّج” ضميراً مأزوماً أكثر منه بطلاً مكتمل الملامح، ومن حقنا أن نتساءل، هل نثق في ما يقوله “المهرج” بما أنه مهرجا؟، في مقابل هذه الشخصية، يستدعي الماغوط من عمق التاريخ العربي شخصية عبد الرحمن الداخل، مؤسس الدولة الأموية في الأندلس عام 755 ميلادية (صقر قريش) ليجعل منه البطل التاريخي للمسرحية، هذا الاستدعاء ليس بريئاً ولا محايداً، ولكنه يقوم على رهان واضح، استحضار رمز من رموز الأمجاد العربية ليقف شاهداً، قاضياً، رائيا، على ما آلت إليه أحوال العرب من استبداد وضياع وانهيار، غير أن هذا الرهان، على الرغم من جاذبيته العاطفية، يظل إشكالياً على المستويين الفلسفي والسياسي ليكشف عن تناقض معرفي في أدوات الماغوط النقدية، فهل نجح الإخراج المسرحي لنص “المهرج” في استنباط عمق العمل والبنية الدرامية للنص بكل ما تحمله الكلمات من أبعاد نقدية؟

تعالج المسرحية إشكاليات باتت شبه ثابتة في الخطاب الثقافي العربي المعاصر، الاستبداد، قمع الشعوب، تفشي الفساد، وضياع الأندلس وفلسطين واسكندرون،  وأجزاء أخرى من الجغرافيا العربية، نتيجة التواطؤ الداخلي، وبيع الأرض والتاريخ بأبخس الأثمان، بفعل الغزو الخارجي  والداخلي، هذا المعنى بوضوح في تساؤل صقر قريش المرير: “جئت أسألكم كيف أضعتم فلسطين والأندلس واسكندرون؟”، وهو سؤال يتجاوز بعده التاريخي ليغدو إدانة أخلاقية للأنظمة العربية المعاصرة التي تحكم شعوبها بالحديد والنار، وتُحكم قبضتها عبر بطانات من الفساد والرشوة والمحسوبية، فيما تتقن فن إطلاق الشعارات الوطنية الجوفاء، والتشكيك الدائم في وطنية الآخرين وتخوينهم، يرى الماغوط، بوضوح لا لبس فيه، أن الشعارات القومية والوطنية التي ترفعها الأنظمة ليست سوى أقنعة زائفة، تخفي استعداداً كاملاً لبيع كل شيء، الأرض، الإنسان، التاريخ ذاته، إذا اقتضت المصالح الشخصية ذلك. ويتجسد هذا المنظور في المفارقة الصادمة التي يقدمها النص حين يُساوِم مسؤول عربي نظيره الإسباني على بيع صقر قريش نفسه، رمز المجد العربي، بثمن بخس (30 ألف طن من البصل) هنا يبلغ العبث ذروته، ويتحوّل التاريخ إلى سلعة، والبطل إلى غنيمة، غير أن هذه الجرأة الفكرية، على أهميتها، تصطدم بمشكلة جمالية وفكرية أساسية في المسرحية، تتمثل في هيمنة المباشرة والتقريرية، وافتقار النص إلى الإيحاء الرمزي والاشتغال العميق على الدلالة، لجأ المخرج محمود قدح إلى توظيف قطعا من الكوفية(رمز النضال والكفاح) من خلال جعلها رقعة في بنطلون المهرج، وفي قميص الممثلين، فالماغوط، على الرغم من شاعريته المعروفة ونزعته الإنسانية الإصلاحية، يقع في فخ التبسيط والتسطيح، ويغرق في خطاب مألوف مستهلك، تبرز هذه الإشكالية في الشعارات الجاهزة التي تُطلق على الخشبة، مثل البيت الشعري لأبو القاسم الشابي “ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر”، وهي عبارات مسكوكة جاهزة تثير التصفيق أكثر مما تثير التفكير، وتستدر العاطفة بدل أن تفتح أفق التأمل. من هنا، يمكن القول إن المسرحية لا تنجح في خلق الدهشة الجمالية أو الصدمة الفكرية الضرورية لأي عمل مسرحي نقدي، فهي لا تخرج من دائرة المألوف، ولا تخرق أفق التوقع لدى المتلقي، وإنما تُعيد إنتاج خطاب احتجاجي مأزوم، يكرر نفسه حتى يفقد طاقته التحريضية، وبدلاً من أن تحفّز المشاهد على التفكير والفعل، تُدخله في حالة من التململ، نتيجة رتابة المعالجة وتكرار مشاهد الإدانة اللفظية دون أفق عملي أو تخييلي جديد. ومع ذلك، ينجح الماغوط، في لحظة درامية محدودة، في إنقاذ نصه جزئياً عبر خلق مفارقة قيمية حادة، تتمثل في النهاية التراجيدية لصقر قريش، الذي يُباع بثلاثين ألف طن من البصل، فيما يواصل الحفيد لبيع ما تبقى من المستقبل، هذه النهاية، على رمزيتها، تكشف ببلاغة عن انهيار منظومة القيم، وعن تحوّل المجد إلى وزنٍ في ميزان السوق.

غير أن الإشكال الأعمق في المسرحية يكمن في خيارها التاريخي ذاته، فالماغوط يُسقط شخصية تاريخية ذات نزعة استبدادية واضحة على واقع عربي حديث، بهدف محاربة الاستبداد والدعوة إلى التحرر. وهذا إسقاط غير موفق، فلسفياً وتاريخياً، لأن عبد الرحمن الداخل، مهما بلغت عبقريته السياسية والعسكرية، لم يكن مشروعاً ديمقراطياً، بل كان حاكماً فردياً يرفض حتى مبدأ الشورى إذا تعارض مع سلطته، كما أن التاريخ الأموي، بما فيه من قمع وإقصاء واضطهاد، لا يؤهله لأن يكون مرجعية لتحرير الإنسان العربي المعاصر. من هنا، يبدو استدعاء صقر قريش تناقضاً صارخاً (في نظري، وقد أكون مخطئا) كيف يمكن لشخصية قامت على منطق القوة والانقسام أن تكون رمزاً للتحرر وبناء الديمقراطية؟، إن عبد الرحمن الداخل نفسه كان أحد أسباب انقسام الخلافة الإسلامية إلى شطرين، عباسي في بغداد وأموي في الأندلس، بعد أن كانت وحدة سياسية واحدة. إن هذا التناقض يجعل الرهان الدرامي للماغوط هشاً، ويضعف مشروعه النقدي، ويزداد هذا الإرباك حين ينزلق النص إلى خطاب تعبوي يدعو إلى الحرب، على لسان المهرّج وصقر قريش، دون وعي بشروطها التاريخية والسياسية. فالدعوة إلى “السلاح أيها العرب” تبدو أقرب إلى الحنين الرومانسي منها إلى رؤية استراتيجية عقلانية، خاصة في ظل اختلال موازين القوى عالمياً. وهنا يتحول الخطاب من نقد الاستبداد إلى إعادة إنتاج منطق المغامرة، وكأن الكاتب يستنجد من الرمضاء بالنار، ومع ذلك، لا يخلو النص من ومضات أمل، حين يعبّر صقر قريش عن ثقته المطلقة بالأحفاد القادمين وبالأمة العربية، دون أن يقدّم تصوراً عملياً لكيفية تحويل هذه الثقة إلى مشروع تاريخي قابل للتحقق. فتظل الثقة معلّقة في فضاء البلاغة، لا تسندها خطط أو رؤى أو برامج إصلاحية، رغم إنسانية الماغوط وصدق نواياه، تفوح من مسرحية “المهرّج” نزعة قومية نوستالجية، تحنّ إلى الماضي أكثر مما تؤسس للمستقبل. وهي نزعة أدخلت النص في دائرة “المشاكلة دون الاختلاف”، أي في إعادة إنتاج القديم بدل تجاوزه، فالدعوة إلى استعادة الأمجاد عبر شخصيات تاريخية استبدادية لا يمكن أن تفضي إلى تحرير حقيقي، لأن المشكلة ليست في غياب الأبطال، وإنما في بنية الاستبداد ذاتها. والعالم العربي، كما يلمّح الماغوط نفسه، لا يفتقر إلى الشجعان، بل إلى شروط ظهورهم.

مسرحية”المهرج” قدمت مساء الخميس 18 ديسمبر/كانون الأول 2025 على خشبة مسرح وسينماتك أم الفحم، من تأليف: الكاتب السوري الراحل: محمد الماغوط.، اعداد نص: خليفة ناطور، اخراج: محمود قدح، تشخيص: خليفة ناطور، غسان أشقر، صبحي حصري، فزع حمود، رائد شمس ويارا زريق، تصميم ملابس وديكور: اشرف حنا، تصميم اضاءه: فراس روبي، موسيقى: معين دانيال، تنفيذ ديكور: سمير حوا، مديرة انتاج: اليان فرانش، ماكياج: مرح خليفة، خياطة وتنفيذ ملابس: فيفيان ابو سني، تقنيات: صدى للإنتاج، تدقيق لغوي: احمد كساب، تدريب نطق: كفاح زريقي، تصوير فيديو: موفق عودة ، مدير عام المسرح العربي ام الفحم: م حمد صالح اغبارية، المدير الفني للمسرح العربي ام الفحم: هشام سليمان، انتاج المسرح العربي – ام الفحم.

** الكاتب سعيد العفاسي صحافي وناقد فني.

 

 

 

 

 

من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى