د. محمد حبيب الله: ما أَطْوَلَك يا ليل عَ السهران!

كما هو الحال كلّ سنةٍ وعندما يدخلُ التوقيت الشتوي حَيِّز التنفيذ ينتابُني شعور بالضيق الشديد بسبب ما يتركه هذا التوقيت عندي. فأنا وغيري كثيرون لا أحبّ هذا الليل الطويل الذي تبدأ الظُلْمةُ فيه من الساعة الخامسة مساءً فأبدأ حينها بعد الساعات الطوال من السّهر. وأصْعَقُ عندما تمرّ على الساعات الثلاث الأولى، فإذا أنا ما زلْتُ في الساعة الثامنة مساءً، تلك الساعةُ التي تبدأُ فيها السهرات الجميلة في الصيف. عندها أحسّ بثقل هذا الليل وابدأ بالتفكير كيف سأقضي باقي الساعات حتى نهاية اليوم وبداية النوم، أتذكّر كل ليلة ما قاله الشاعر الجاهلي أمرؤ القيس في مُعلقتهِ الشهيرة حين صَوّر هذا الليل الطويل بالجمل الذي يريد أن ينيخ ويبرك فجِتْمُ على الصدور كأنما للأنفاس ويشبّهُهَ بموج البحر الذي يغمر بقوته ومرّة ودفعه كل ما هو على الشاطئ، هذا الليل الذي يُرخي سدوله، ويمتحن صبرنا المرّ عليه عندها أردّد بلا حول ولا قوة ما قاله شاعر آخر:

سأصبرُ حتى يعجز الصبرُ عن صبري
وأصْبر حتى يعرف الصبرُ أنّني
  وأصِبرُ حتى يأذِنَ اللهُ في أمري
صبرتُ على صبرٍ أمرُّ من الصّبرِ

 

وأتذكر ما قالَ أمرؤ القيس مخاطبًا الليل قائلاً ألا أيها الليلُ الطويل متى تَنجلي تمنّى وأدرك النهار. لكنه يستدرك ما قاله بالطول، وهل الصبح أحسنُ منك؟ يقول أمرؤ القيس في معلقته:

وليلِ كموجِ البحرِ أرخي سُدوله
فقلتُ له لما تمطّى بصُلبِه
ألا أيها الليلُ الطويلَ ألا انجلي
  عليّ بأنواع الهموم ليبتلِ
وأردفَ اعجازًا وناءَ بكلِكِلِ
بصًبح وما الاصباحُ منك بأمثل
   

وهكذا يُشبّهُ امرؤ القيس الليلَ بالجمل ثقيل الهِمّة الذي يبعث صدره إلى الأمام عند عملية الإناخة ثمُ يُتبعُ ذلك بإنزال عجزِه على الأرض ثم ينوء ويصنع ثِقْلَهُ واضعًا مُقَّدَّمته على الأرض.. وهذا تشبيهٌ رائع ووصف أروع في تشبيه الليل الثقيل بالجمل عندما ينيخ ويَبْرُك. هكذا ينيخ الليل علينا ثقيلاً ثقيلاً ثقيلاً.

لقد امتلأ الشعر العربي بالأبيات التي يصف قدوم الليل بطوله وكأن لسان حالهم يقول وبِنَفس عميق ما أطولك يا ليل والحال عكسية عندما يقضي هذا الليل بصحبته من يُحِبّ فتمرّ الساعات بسرعة فلا يحس بطول الليل. كان أكثر ما يُشغل بال الشاعر الجاهلي بشكل خاص والشعراء بشكل عام، موضوع الليل، ذلك ان الإنسان عادةً أكثر ما يكون مفكرًا بلواعج النفس في الليل فما ان يخيّم الظلام حتى ينفرد الشاعر بنفسه وتبدأ عند المحاسبة في ما مرّ عنه في لحظات فرح وسعادة ومن لحظات لوعة واشتياق للحبيب الذي لم يأتِ أو الذي صَدّه. لقد عبّره الدكتور حبيب بولس عن ذلك في كتابه (الصوت والصدى 1996) حيث قال: “وكان ليل العاشق مرآة لنفسه تعكس لواعجه وخلجات قبله وآماله وفشله وما إلى ذلك”. ان مكنونات النفس وأسرار القلوب قليل العاشق مبعث للهموم والأحزان إذا أعرضت عنه وشعور بالسعادة والفرح حينما تعده باللقاء… وهو طويل إذا نأت فصير إذا دنت.

فيما يلي أقدّم للقارئ نماذجًا لأشعار قيلت في طول الليل، يقول النابغة الذبياني:

كليني لهم يا أميمة ناصب
تقاعس حتى قلت ليس بِمُنقض
  وليل أقاسيه بطيء الكواكب
وليس الذي يرعى النجوم بآيبِ

 

فهو يرى الليل طويلاً بسبب معاناته فيه ولدرجة يشعر فيها ان لا آخر لهذا الليل… أما أبو صخر الهذلي فإنه يؤمن بأن الحب لا بأول كاملاً إلا إذا ذاق المحب مرارة الألم. يقول:

أما والذي أبكى وأضحك والذي
لقد تركتني أحسدُ الوحش ان ارى
فيا حبّها زِدْني جوىً كلِّ ليلة
  أمات وأحيا والذي أمرَهُ الأمر
اليفين فيها لا يروعهما الذُعرُ
ويا سلوة الأيام موعدْك الحشر

ويصف أحدهم الشاعر التي تعتريه لحبيبته في نهاره وليله

أخَلُّ نهاري فيكم متقبلاً   ويجمعني والهمّ بالليلِ جامعُ

وهنالك من كان منصفًا لليل ورأوا ان طوله وقصره شيء نسبي منوط بالمشاعر فهو لا يظلمهُ:

لا أظلمُ الليلَ ولا أدّعي
الليلَ ما شاءت فإن لم تزرْ
  ان نجوم الليل ليست تغدُرُ
طالَ وإن زارت فليلي يقصُرُ

وهكذا نرى ان الليل لا يطولُ ولا يقصر وانما شعور من يقضيه هو الذي يقرر إذا كان الليل طويلا أو قصيرًا:

 

يقولون طال الليل والليلُ لم يَطلُ
وكم ليلة طالت عليّ بهجركم
  ولكنّ من يهوى من الهمّ يَسْهَرُ
وأخرى تليها نلتقي فهي تقصُرَ

يقول الشاعر ديك الجن:

من نام لم يدر طال الليل أم قصُرَا   ما يعرف الليلَ إلا عاشِقْ سهرا

ي ان خالي الهموم لا يحسّْ بطول الليل وينام نومًا عميقًا، وهذا ما يحدث عادة والناس الذين يحمّلون الهمّ لا ينامون ويسيطر عليهم الأرق. يقول الشاعر العباسي أبو العتاهية:

 

والليل أطول من يوم الحساب علي   عين الشَّجيّ إذا ما نومُهُ نَفَرا

وهكذا يتراوح طول الليل وقصره تبعًا لكيفيْة قضائه فالسهر مع الناس والمخالطة تجعلك لا تشعر كيف انقضى الليل خاصّة في هذه الليالي الطويلة في الشتاء. والإنسان العاقل هو الذي يرتب لنفسه برنامجًا مليئًا بما يُشغله من عمل ومخالطة يستقبل الناس عنده ويزورهم.

ولا أجمل من أن أختتم هذا المقال بما قاله ابن زيدون الذي كان يُحبّ ولادّه ابنة المستكفي في الأندلس مخاطبًا إياها:

يا أخا البدر سناء وسنى
ان يطل بَعدكُمُ ليلي فكم
  حفظ الله زمانًا أطلعَكَ
بت أشكو قصر الليل معك

وكم نطرب عندما تغني فيروز إحدى الموشحات الجميلة

يا ليلُ الصبّ متى غدُهُ   أقيام الساعة موعدُهُ

ونحن نبقى أمام الحقيقة توقيتًا شتويًا يجثم على صدورنا ويجعلنا نشعر به أن الليل طويل ويبقى السؤال ماثلاً أمامنا كيف نقضي ليلنا؟!

من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى