رانية عقل: حين تُستخدَم البيئة ضد أهلها.. هل استُخدمت البيئة ضدنا؟

باسم الحماية تغيّرت ملامح الأرض، وباسم التطوير ضاق الأفق، وباسم الاستدامة سُلِبت علاقات قديمة بين الناس ومكانهم. لسنا ضد الشجرة، ولا ضد الطريق، ولا ضد العلم. ما نرفضه أن تتحول الطبيعة إلى أداة ضبط، وأن يُعاد تعريف الأذى بلغة ناعمة حتى لا نراه. هذا المقال محاولة لفهم ما يحدث حين تُدار البيئة من فوق، ويُقصى عنها أهل المكان.
الماء ليس موردًا فقط، بل إيقاع حياة. في القرى يُقاس اليوم بالماء: متى يصل، متى ينقطع، كم نؤجل أعمالنا اليومية، وكم نقتصد خوفًا من الغد. حين يُمنع الناس من إدارة مواردهم المائية محليًا، سواء عبر تقييد حفر الآبار، أو منع تجميع مياه الأمطار، أو فرض غرامات وتنظيمات على الاستعمال الشخصي والزراعي، لا يكون الحديث عن إدارة موارد، وإنما عن إدارة حياة.
تختلف القيود على الوصول إلى الماء بين الضفة الغربية وأراضي 48، لكنها تشترك في تقليص قدرة الناس على التحكم بمصادرهم المائية، وتحويل الماء من حق مشترك إلى خدمة تُدار عن بُعد، وتُقطع، وتُسعَّر، ويُعاقَب على الخروج عن شروطها. في منطقتنا، الماء ليس مسألة محلية فقط، بل ملف عابر للحدود، من جبل الشيخ إلى نهر الأردن، إلى الأحواض الجوفية المشتركة. جبل الشيخ لم يكن يومًا مجرد قمة جغرافية، بل خزانًا مائيًا يغذي المنطقة. وحين تتغير السيطرة على منابع الماء، تتغير معها خرائط القوة، حتى إن لم تُرسم على الورق.
نهر الأردن، الذي كان شريانًا حيًا، تقلص بفعل السحب المكثف والتحويلات والمشاريع التي قُدّمت على أنها تطوير، بينما جرى تجاهل الجريان الطبيعي. ما يصل اليوم إلى البحر الميت ليس إلا جزءًا يسيرًا مما كان. هنا لا نتحدث عن سياسة فقط، وإنما عن حق الوجود بكرامة. حين يتحكم طرف واحد بالتوزيع والتخزين والتوقيت والسعر، يصبح العطش أداة صامتة لا تحتاج إلى إعلان.
الغذاء ونباتات البر: علاقة حياة لا مخالفة
الغذاء في حياتنا لم يكن معزولًا عن الأرض، ولا منفصلًا عن المواسم، ولا قائمًا على الاستهلاك فقط. أغلب المطبخ الفلسطيني نشأ مما تنتجه الأرض في وقتها وبقدرها. الزعتر، والعكوب والعلت، والحميض، والخبيزة، وغيرها من نباتات البر، لم تكن مجرد مكونات طعام، إنما جزءًا من معرفة يومية: متى تظهر، كيف تُقطف، كم نأخذ، وكم نترك. كانت هذه المعرفة تُمارس بحذر وبإحساس عميق بالاستمرارية. الأخذ لم يكن استنزافًا، بل مشاركة.
حتى القصب في الوديان لم يكن نباتًا بريًا بلا وظيفة، بل مادة حياة تُصنع منها السلال والحصر وأدوات تخدم البيت والعمل، خصوصًا بأيدي النساء. علاقة نفعية، نعم، لكنها تشاركية، لا تقوم على السيطرة بل على التفاهم مع المكان. حين جرى تجريم هذه العلاقة، لم يُجرَّم نبات بعينه، بل فُككت منظومة معرفة كانت تحافظ على الأرض بقدر ما تعيش منها. تحولت ممارسات تقليدية مسؤولة إلى مخالفات، بينما استمر التعامل مع الأرض كمورد قابل للتجريف والاستثمار المكثف. هنا لا يكون الحديث عن حماية الطبيعة، وإنما عن فصل الإنسان عنها، ونزع الثقة بمعرفته، وتحويله من شريك إلى متعدٍ.
المرعى: حين تُجرَّم الرعاية ويُقطَع الرزق
المرعى نظام حياة. في الجبال لم تكن الأرض تُترك لنفسها، بل كانت تُدار بعلاقة طويلة الأمد بين الإنسان والحيوان والمكان. الأغنام السمراء، المتأقلمة مع الجبال الفلسطينية، كانت جزءًا من توازن الطبيعة. ترعى الأعشاب الزائدة، وتُقلّم النباتات، وتمنع تراكم الكتلة الجافة التي تتحول عند أول شرارة إلى حريق، وتنقل البذور من مكان إلى آخر.
بعد الحرائق الكبرى، فُهم متأخرًا أن غياب الرعي كان أحد أسباب اشتعال الأرض، وأن المرعى المفتوح كان خط دفاع طبيعي ضد النار. لكن هذا الفهم جاء بعد المنع. حُوصر المرعى، وفُرضت الغرامات، وضاقت المساحات، حتى صار السؤال اليومي لراعي الغنم: أين نرعى؟
لم يقتصر أثر هذا المنع على الأرض وحدها، بل طال الناس أنفسهم. مع تضييق المرعى، قلّ من يعمل اليوم في رعي الأغنام. لم يعد هذا العمل ممكنًا كما كان، لا في الشمال ولا في الجنوب. هكذا لم يُقيَّد الرعي فقط، بل قُطع رزق، وسُلِخت علاقة مهنية وهوياتية بالمكان. من أراد أن يرعى، لم يعد يجد أين، ولا كيف، ولا تحت أي شروط. ومع تراجع الرعي، تراجعت معه معرفة، ومهارة، ونمط حياة كان جزءًا من النسيج الاجتماعي والبيئي.
الأمر نفسه انسحب على تربية النحل، وهي ممارسة قديمة مرتبطة بالمواسم والنباتات البرية، صارت مشروطة بتصاريح وتنظيمات تقطع العلاقة الحرة مع المكان. والنتيجة ليست بيئة أكثر أمانًا، وإنما أرض أكثر هشاشة، وأكثر عرضة للحرائق، وأفقر بالتنوع الحيوي.
الغابات والصنوبر: حين تُزرَع الشجرة لتُحاصر
ليست كل شجرة حياة، ولا كل غابة حماية. حين زُرعت غابات الصنوبر بمحاذاة القرى، لم تُزرع امتدادًا طبيعيًا للأرض، بل تحولت إلى خط فاصل صامت. الصنوبر شجرة غير محلية في كثير من مناطقنا. أوراقها الكثيفة تُغطي التربة وتمنع نمو النباتات تحتها، فتُفقر الأرض من تنوعها الحيوي، وهي سريعة الاشتعال حين يجف موسمها.
في المقابل، الأشجار المحلية كالبلوط والسنديان والخروب تنتمي إلى هذا المكان. تحمي التربة، وتوفر ظلًا حقيقيًا، وتخلق توازنًا طويل الأمد. الفرق هنا ليس تقنيًا فقط، بل هو فرق رؤيوي، بين غابة تُزرع لتؤدي وظيفة تخطيطية أو سياسية، وغابة تنمو كجزء من منظومة حياة.
الطرق والكسارات: حين يُشق المكان بالقوة بدل الحكمة
في الموروث الشعبي، كانوا يتركون الحمار يمشي، ومن المسار الذي يختاره تُفتح الطريق. لم يكن ذلك سذاجة، بل معرفة بالمكان. الطريق لم تكن استعراضًا، بل خدمة. اليوم تُشق الطرقات بعرض مبالغ فيه، وتُفرض بالقوة، على حساب الحقول والسناسل والمسارات الطبيعية. تُؤخذ الأراضي، ويُقال إن الهدف حل أزمة السير، لكن الأزمة تبقى، بينما تدفع الأرض الثمن.
إلى جانب الطرق تأتي الكسارات، تُقام بمحاذاة القرى، تسحق الحجر والهواء معًا، وتترك الغبار في الرئات والضجيج في الذاكرة. يُقال إن هذه مشاريع تنموية، لكن من يدفع الثمن هم السكان القريبون: صحتهم، وهواؤهم، وسلامة حياتهم اليومية.
الهواء والطاقة: حين تُفرَض الحلول الخضراء من فوق
البيئة ليست ماء وأرضًا فقط، بل هواء أيضًا. في السنوات الأخيرة تُقدَّم مشاريع الطاقة المتجددة كحل أخلاقي لأزمة المناخ، لكن السؤال يبقى: أين تُقام هذه المشاريع، ومن يقرر، ومن يدفع الثمن؟
في الجولان أُقيمت عَنَفات الرياح قرب أراضي الفلاحين. قيل إن الهدف طاقة نظيفة، لكن الأثر كان إضرارًا بالمحاصيل وخطرًا على الطيور المهاجرة. المستفيد لم يكن المجتمع المحلي، بل مشاريع كبرى تتحدث باسم المناخ دون إشراك من يعيشون في المكان.
الأمر نفسه يتكرر مع الطاقة الشمسية. القوانين معقدة، والتكلفة عالية، فيتحول الحق في الطاقة إلى امتياز. في النقب، حيث الشمس وفيرة والحاجة ماسة، تُقيَّد القرى مسلوبة الاعتراف من حلول الطاقة المستقلة، بينما تُقام مشاريع واسعة لا تعود بالنفع المباشر على السكان.
لسنا ضد الطاقة المتجددة. المشكلة في إعادة إنتاج الظلم بلون أخضر.
ما الذي نطالب به فعلًا؟
نطالب بعدالة بيئية تعترف بالإنسان جزءًا من المكان لا عبئًا عليه. عدالة ترى في الماء حقًا، وفي الغذاء علاقة، وفي المرعى رعاية، وفي الغابة تنوعًا، وفي الطريق خدمة، وفي الطاقة حقًا مشتركًا. فالطبيعة لا تحتاج من يفرض عليها الحلول، وإنما تحتاج من يعيش معها وفيها ويحميها لأنها تحميه.
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com



