شوقية عروق منصور: محمود يصيح: كيف سأعانقك؟!

“محمود عجور” ليس طفلاً فلسطينياً غزاوياً  كباقي الأطفال، فالطفولة في هذا العالم تقع تحت  إرادة أصحاب القرار السياسي والمزاج المحاط بالمصالح السياسية أولاً، وبعد ذلك لتذهب الطفولة إلى الجحيم!

من يحاول وضع رأس الطفل الفلسطيني على ركبة السياسي لكي ينام هادئاً ويغني له أغنية الساحرات والطيور والحيوانات اللطيفة، أقول له: استيقظ لأن الطفولة الآن تعيش في عالم شرس،  في غابات متوحشة، ولا مجال لتجميل التقارير ونشرات الأخبار التي تحمل صور الطفولة المقتولة، الجائعة، التائهة، الوحيدة، ومئات الأطفال في قطاع غزة دون عائلات ، بعد استشهاد الآباء والأمهات!

وليس سراً أن نعرف أن هناك “الأطفال اللي فوق” و”الأطفال اللي تحت”.. عذراً من الكاتب المصري نعمان عاشور، الذي كتب مسرحية “الناس اللي تحت”، التي أحدثت ضجة في سنوات الستينات لأنها كشفت عن عمق مآسي الطبقة الفقيرة وطموحها للعيش بظروف أفضل.

لكن فعلاً.. لقد كشفت الحروب أن القوي يدوس على الضعيف، وغالباً الضعيف في الحروب هو الطفل الذي لا يستطيع الهرب أو الاختباء أو الدفاع عن نفسه، ولا يعرف بعد ما معنى تزييف الشعارات ونفاق الخطابات وحقارة الخطط السياسية التي تؤدي إلى قتل شخصية الطفل قبل أن يواجه مرآة السنوات ويصبح شاباً له قدرة على اتخاذ القرار!

والأدهى حين تصبح “جمعيات الطفولة” عبارة عن مسارح تعرض أحلام الأطفال ورقصاتهم وحناجرهم، التي تستيقظ بالغناء والكلمات الملونة بزهو السياسيين الذين يوفرون الحياة الكريمة لهم. ولكن خلف الكواليس هناك من يضع الأطفال في أقفاص تباع في أسواق الذل والقهر والجوع والفقر!

لا أريد أن أفتح أبواب أرقام الأطفال، الذين طوتهم صفحات الحياة في غزة وتحولوا إلى أرقام محاطة بالحسرة والوجع، لأن الغياب قد وضع أمام كل اسم إشارة تحتوي على تساؤل يربط حزام الموت بقوة، ليعلن أن هذا الرقم قد وضع في خانة النسيان، أو الأطفال الذين يسيرون في الشوارع والطرقات الترابية الضيقة وبين أكوام الركام، يبحثون عن بقايا عائلاتهم، أو الأطفال الذين يقفون بالطوابير حاملين الأواني القديمة لعل أحدهم يشفق عليهم ويناولهم وجبة طعام تسد رمقهم!

لكن الطفل “محمود عجور” حالة قد تدفعك إلى بئر عميقة مظلمة، حين يقول لك هذا الطفل – الذي بترت يداه – بصوت حزين صعقه ذهول اللحظة ودهشة الفراغ: “كيف سأعانق؟!”.. هذا التساؤل الذي يقفز من عينيه الحائرتين من واقع جديد لا يعرف كيف يلمسه.. لا كفوف تصفق ولا أصابع تهمس للقاء والكتابة والمسح والشطب.. لا بصمات تؤكد أنه القادر والموجود على خط الحياة.

ويكبر السؤال المرتعش ويصعد إلى الواقع الذي يفتش عن “محمود”، فلا يجد من يعتني به من مؤسسات أو جمعيات علاجية توفر له البديل عن ذلك البتر.

– “كيف سأعانق؟!” و”كيف سأمشي؟!”.. أسئلة تهرب الآن من مخادع الطفولة إلى صراخ المستحيل، من طفولة البتر والفقدان والجوع والدمار، رسائل وبرقيات إلى المقاعد الوثيرة التي يجلس عليها أصحاب القرار.

بين العيون المحدقة، المنخورة بالأحزان الصامتة، وبين الأحلام المنسية التي دخلت في سبات، هناك طفولة غزاوية تم تسجيلها كطفولة عابرة في زمن وحشي، وستصبح غداً مجرد صور تذكارية لطفولة لم يبتسم لها القدر.

لقد قالها شاعرنا محمود درويش في قصيدة “جواز سفر”:

لم يعرفوني في الظلال

التي تمتص لوني في جواز السفر

وكان جرحي عندهم معرضاً

لسائح يعشق جمع الصور!!

 

 

من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى