جنى اياد أبو غزالة: حين تُغتالُ القِيَمُ في مَهدِ العِلمِ

ما أَقسى أن يَصحو القلبُ على مَشهَدِ الجِنايةِ لا على الأجسادِ بل على الأرواحِ، الّتي بَنَتها الأيّامُ فوقَ مَقاعدِ الخَشبِ وتَحتَ أروِقةِ الطُّموحِ.
وما أفظَعَ أن يُستهدَفَ نورُ العِلمِ في مدينةٍ عُرِفَت بشُموخِها وبأبنائِها الّذينَ ما استَكانوا ولا رَضَخوا لِقُبحِ الفِعلِ أو بُؤسِ العَبَثِ.
نعم إنّها مدينةُ أمّ الفحمِ وما أدرَاكَ ما أمُّ الفحمِ الحاضِنةُ للمدارسِ والمُشتَعِلةُ دومًا بنورِ الفِكرِلا بنارِ الفَوضى.
لقد تابَعنا بقلوبٍ مكلومةٍ وأعيُنٍ لا تكادُ تُصَدِّقُ سلسلةَ الاعتداءاتِ الوحشيّةِ الّتي طالَت مؤسّساتِنا التّعليميّةَ فطُعِنَت مدارسُنا في كبريائِها وكُسِرَت نوافذُها وهُشِّمَت أحلامُ صِغارِها.
وقد تاهَت الأسئلةُ بينَ رُكامِ الكَراسي المُحطَّمةِ: مَنِ المُستفيدُ؟
وما ذَنبُ الحِبرِ إن سالَ على جُدرانِ الخَوفِ؟
وما ذَنبُ اللّوحِ إن صارَ مرآةً تَعكِسُ وُجوهَ المُعتدينَ؟
إلّا أنّ في هذا السّوادِ بَصيصًا مِن نورٍ لا يُطفَأُ.
نورٌ تَجَسَّدَ في أُولئكَ الّذينَ يُواصِلونَ رِسالتَهم رغمَ كُلِّ شيءٍ في مُعلّمينَ ومُعلّماتٍ شرَّفَهم الكِفاحُ وزَيَّنَ وُجوهَهم سُهادُ اللّيالي.
أَكتُبُ بمِدادِ المَحبّةِ والتّقديرِ عن كُلِّ أُولئكَ الّذينَ وقفوا في وجهِ الخَرابِ لا بسلاحٍ، بل بالكَلِمةِ، بالاحتِواءِ، وبالعَطاءِ اللامحدودِ.
أُخصُّ بالذِّكرِ مُعلّمتَينِ كانَ لهُما في مَسيرتي الأثرُ الأكبرُ وكأنّهما نُسِجَتا مِن صبرٍ ونُقِشَتا مِن وَفاءٍ. المُعلّمةُ أحلام محاجنة تلكَ الّتي لا تَمضي في الدّربِ إلّا وهي تُشعِلُ شُموعًا في ظُلمةِ الآخَرينَ وبُوصلتي والّتي لا تَرى في التّعليمِ مِهنةً بل رِسالةً تُحمَلُ على الكَتفِ كما يُحمَلُ الوَطنُ.
ثمَّ مُعلّمتي، ومُلهمتي، رويدة محاجنة، الّتي لا زِلتُ أراها أَمامي كُلّما تَعَثَّرتُ تَمدُّ يَدَها لا بسُلطَةٍ بل بحَنانٍ يُنبِتُ مِن الألمِ أَمَلاً ويُحوِّلُ الدّمعَ إلى دَفاترَ مُحَبَّرةٍ بالإنجازِ.
وليسَ من الإنصافِ أن أَغفُلَ الإدارةَ المدرسيّةَ وهي الّتي احتَضَنَتنا في أزماتِنا وبَذَلَت ولا تزالُ مِنَ الجُهدِ ما لا تُحصيهِ الأوراقُ.
وأخصُّ بالذِّكرِ المُديرةَ حنانَ محاجنةَ، الّتي وَسِعَ صدرُها احتواءَ الجميعِ فكانت أمًّا ومُربّيةً قبل أن تكونَ قائدةً والأستاذَ هشام محاجنة، الّذي لم يَتوانَ لحظةً عن رفدِ المدرسةِ بكلِّ ما يَنهضُ بها فكريًّا وتربويًّا، في مشهدٍ يُجسّدُ أبهى صُوَرِ الإخلاصِ والمبادرةِ.
ولن أنسى طاقمَ الهيئةِ التّدريسيّةِ بأكملهِ أولئكَ الجنودَ المجهولينَ الّذينَ يَسهرونَ على غَرسِ القيمِ ويَسعَونَ في كلِّ يومٍ لبناءِ جيلٍ يَحملُ من النّورِ ما يكفي ليُضيءَ عتمةَ الزّمانِ.
مدرستي ليست مجرّدَ بناءٍ مِن إسمنتٍ وحَجَرٍ بل هي امتدادٌ لِروحي جُزءٌ من تَكويني وذاكرتي الّتي أودُّ أن أَرثيَها بأفعالِ العطاءِ لا بأخبارِ التَّحطيمِ. تَربطني بها علاقةٌ لا تُروى في سَطرٍ ولا تَختزلُها عِبارةُ “أُحبُّ مدرستي”، بل هي صَداقةُ الأعوامِ، وشراكةُ الأحلامِ، وسِجِلٌّ مِن المواقِفِ الّتي تَشَكَّلَت فيها هُويّتي، وكأنّ جُدرانَها تَحفَظُ أنفاسي، وكأنّ المَقاعدَ تَشهدُ على أَفكاري حينَ كانت وَلِيْدةً تَبحثُ عن ضَوءٍ.
فيا مَن تَطاوَلتم على هذهِ القِلاعِ التّربويّةِ اعلموا أنَّ الحديدَ يُرَمَّمُ والزّجاجَ يُستَبدَلُ لكن أن تُكسَرَ قُلوبُنا فذاكَ أمرٌ لا يُغتَفَرُ.
ومعَ ذلكَ لن نُبادِلَكم ظُلمةً بظَلامٍ بل سَنَزيدُ مِن وَهجِنا وسَنَكتُبُ بأصابعِنا المُتعبَةِ أنَّ العِلمَ أَقسَى وأنّنا نَعرفُ طريقَ النّورِ جيِّدًا، ولن نَحيدَ.
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com


