شوقية عروق منصور: ليلة بدون تصريح (قصة قصيرة)

قفز من فوق السور، نزل الى ساحة خلفية لبيت بعيد عن الحارات المتراصة، اختبأ بين الأشجار.
لم يعد يسمع أصوات الخطوات الراكضة خلفه، أصوات البساطير التي تحفر الأرض بأنياب التوجس الناري، خطوات يعرفها جيداً. كم من الأيام والليالي عاشها وهو يتوقع مجيئها، ومن شدة خوفه كان يتحول جسده إلى أذنين، يرهف السمع لدرجة أنه أصبح يسمع دبيب النملة.
وعندما قال لصديقه أن يسمع أحاديث النمل، ضحك صديقه، وقال له باستخفاف:
– هالقد الشرطة بتخوفك؟!
– أنت بتعرف البير وغطاه.. ما معي تصريح للعمل! وأسهل أشوف ابليس ولا أشوف الشرطة..!!
بعد مرور ساعة، هدأت الأرض المرتعبة، ولم تعد ترتعش تحت الأقدام.. عتمة السماء صافية، لكن قلبه بعيد عن الصفاء، يحمل الخوف المليء بوجوه العمال الذين سبقوه، والحكايات المخيفة التي تشابكت وتعانقت مع الليالي التي تختم ظلامها بتفتيش يغتصب راحتهم وتعبهم، حيث يبعثرونهم بين الطرقات والشوارع كالكلاب الهاربة. وغالباً ما يصلون الى أبواب السجون وقاعات المحاكم، وتبدأ رحلة أخرى من المعاناة.
تسلل، اكتشف أنه حافي القدمين فهو لم يستطع ارتداء حذائه.. بالكاد يسمع دقات قلبه، قلبه جرس مجنون يرفض الاختناق، صوته يخترق اللحم ويخرج قطعاً من اللهاث..
وقف، تنفس بعمق، أخرج سيلاً من الحذر، نزف حيرة.. شكراً للأشجار التي احضنته وأخفته.. أول مرة يشعر بحنين جارف الى الشجر المغروس حول بيتهم.
كان يستخف بوالدته وهي تزرع وتسقي وتقلّم الشجر، ويضحك عليها عندما يراها فرحة وهي تقطف الثمار، ويعايرها بهذا الفرح الساذج. وحتى يغيظها يدق دبوساً في مشاعرها حين يذكّرها ان أرضهم قد صودرت وأشجارهم قطّعت، وتحولت الى مساكن فخمة للمستوطنين، مع انها ما زالت تحلم بأنها صاحبة الأرض. ثم يحمل الثمرة ويرميها في الفضاء، كأن الفضاء مسرح للاحتجاج على مهزلة القدر!
الى أين يذهب؟! لا يعرف…!
الليل والهدوء والرعب حالات يعيشها الآن.. لم تعد القصص التي حاول البعض رميها في حضنه مدرسة لتطوير رياضة الهروب والتخفي والقفز.. الآن عليه أن يجد أي مكان يخفيه حتى الصباح.
جلس تحت شجرة متوارية، اغراضه الشخصية تركها هناك، في الغرفة التي تحولت الى ساحة حرب، لولا الجارة الطيبة التي نبهته بسرعة عند دخول الشرطة للحارة لسقط بين أيديهم ضحية تنضح بالذل والخوف والركل، كما سقط زميله الساكن معه في الغرفة بعد أن القوا القبض عليه وهو داخل الى الحارة.
لن يرجع الى غرفته، ومن المؤكد أن الشرطة تراقب المكان، وسيبقى مختبئاً بين الأشجار حتى الصباح.. تذكر شخصية طرزان، إبن الغابات الذي كان يحبه ويحاول تقليده عندما كان صغيراً.. ضحك، فها هو يتحول الى طرزان من نوع خاص يتنقل بين الأشجار، ليس إعجاباً بالطبيعة إنما هروباً من مصيدة الشرطة.
جلس فوق غصن شجرة حامض.. الهدوء حوله يقايض أنفاسه بتجارة الخوف، يحاول الهدوء كشف وجوده، لكن خوفه يجبره على قبول المقايضة فيحبس أنفاسه.
تململ، تعب، الغصن يتمايل ولم يعد يستطيع حمله، سقط عن الغصن، صرخ بصوت خافت.. آخ ..آخ..! وتذكر أن قد يسمعه أحدهم، وجد الأرض أمامه حضناً، فقال في نفسه:
– سأنام بين الأعشاب أفضل من البقاء طوال الليل فوق الشجرة.
حشر نفسه بين الأعشاب، قرفص، جعل من قدميه كتلة لحمية مدورة، لا يستطيع مدّهما لأنهما ستتحولان إلى وميض ينبّه رجال الشرطة..
عليه أن يبقى بهذا الوضع المتآكل، حيث يأكل ظهره كتفيه وبطنه وساقيه.. إنه الآن سلحفاة هادئة بعد أن اطمأنت أن الخطوات قد ابتعدت، والاعشاب الهائمة بين الريح والليل تحولت إلى ستار يغطيه حتى الصباح.
وبينما كانت المرأة تقوم بنشر الغسيل، لمحت أصابع تطل من بين الأعشاب. نادت زوجها، بحث عن عصا فلم يجد سوى عصا المكنسة، حملها ومشى بهدوء. ثم قال بصوت عال:
– اطلع.. اطلع..!
لا أحد يجيب… تردد، ثم أخذ يزيح الأعشاب بعصا المكنسة.. برز الوجه الرمادي المائل إلى الاصفرار والجسد النائم بهدوء.. اقترب منه، لا يتنفس.
حضرت الشرطة، بعد الفحص تبين أن الشاب توفي نتيجة لدغة أفعى، والغريب أنه لا يملك أي أوراق ثبوتية.. من المؤكد انه جاء للعمل ولكن لا يملك التصريح.
جاءت الشرطة لتحقق مع صاحب البيت ان كان يعرفه، أكد لهم أنه لا يعرفه، بل كان متفاجئاً من وجوده بين الأعشاب والأغرب أنه قرر الموت بهدوء فلم يصرخ ويطلب النجدة!
العامل الذي يملك تصريحاً للعمل، ويعمل في كراج لتصليح السيارات المتواجد في الحي، يعرفه جيداً فهو من قريته، لكنه لم يتفوّه بكلمة خوفاً من اعتقاله وسؤاله عن اسم وعنوان الشاب.. وقرّر أن يبقى صامتاً، محتضناً السيارات المتهالكة التي تبحث عن حياة جديدة..!!
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com