الدكتور محمود علي جبارين: موازنة المعادلات

ينتقل النظام الدولي من مرحلة إلى أخرى، نتاج التطورات الفاعلة على الساحة الدولية. فكانت نقلة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وتشكيل نظام عالمي جديد اتسم بالاستعمار. وبعد الحرب العالمية الثانية، ظهر قطبي القوى العظمى بالعالم: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي. وبعد ذلك، سقوط الاتحاد السوفياتي، وانفراد الولايات المتحدة بقمة النظام الدولي.
وما نعيشه اليوم هو مخاض لحالة ونظام دولي جديد. تظهر فيه الصين كمارد يهدد النفوذ الأمريكي، وتظهر فيه أوروبا محايدة تبحث عن مصالحها التجارية دون المساس بخصوصياتها الإنتاجية، ودول العالم الثالث تلعب دور المشاهد المتلقي.
تغنت الولايات المتحدة أنها مثل العالم الأعلى في الحرية والديمقراطية، أما اليوم فإنها تعبر عبر سياسة ونهج يحاذي مصالحها الذاتية وتعلن ذلك بوضوح، ولو على حساب الديمقراطية والحرية التي تغنت بها. كيف ولا، وأن ترامب عندما سُئل عن السيسي قال: “أين ديكتاتوري المفضل؟”. منذ متى أصبح للدكتاتورية تفضيل في أجندة الولايات المتحدة؟! هذا دليل صارخ على تقديم المصالح الإقليمية والسياسية والاقتصادية على شعارات الحرية والديمقراطية.
ربما يقول البعض إن هذه الشعارات وُلدت لتكون غطاء لنهم الولايات المتحدة في قمع كل من هو معارض، حيث إن هذه الشعارات لم ترتقِ إلى التنفيذ ولو بنسب صغيرة. هذا صحيح، وهو أضعف الإيمان أن تبقى هذه الشعارات تزين خطابات رؤساء الولايات المتحدة، لكنها اليوم لا تصل حتى إلى درجة رنين الشعارات، وأضعف الإيمان، لأنها تكاد تكون اختفت من الخطابات والتوجهات.
في عام 1991، خطب الرئيس بوش بالكونجرس قائلاً: “كانت الولايات المتحدة على مدى قرنين من الزمان هي المثل الأعلى في الحرية والديمقراطية، وقد حملت أجيال متعددة راية النضال للحفاظ على الحرية، واليوم في عالم يتحول بسرعة شديدة، فإن زعامة الولايات المتحدة لا غنى عنها”. هي نفسها هذه الزعامة المزعومة تخضع وتنحني لمصالحها لتنادي بالسيسي ديكتاتوري المفضل!
لقد تغيرت المعادلة، وهذا ما عبر عنه دونالد ترامب في خطابه الأخير يوم 2 أبريل 2025، الذي تمحور حول مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية واعتبرها الموجه الرئيسي في رسم سياستها الجديدة نحو العالم. خاصة أنه ادعى أن الولايات المتحدة تدفع أموالاً طائلة من أجل حماية مصالح الآخرين، وأن مخرجات حلف الناتو لا تتوافق مع الموارد المبذولة فيه.
فهو يثقل كاهل الولايات المتحدة. كما أعلن عن نظام زيادة الضرائب بنسب متفاوتة. ففي خطابه الذي أسماه “يوم التحرير”، قال إن العالم يفرض على الصادرات الأمريكية ضرائب باهظة، فقد آن الأوان أن تفرض الولايات المتحدة رسومًا جمركية على الواردات للسوق الأمريكية والتي تصل حتى 10%، أما الصين تحديدًا، كونها المنافس الأكبر، تصل الزيادة على صادراتها إلى الولايات المتحدة 34%، ويهدد برفعها إلى 50%. والاتحاد الأوروبي زيادة تصل إلى 20%.
هذا بحد ذاته إعلان حرب اقتصادية عالمية ضخمة. مع العلم أن أغلب دول الاتحاد الأوروبي هي في حلف الناتو، وهذا سيؤثر على العلاقات بشكل صارخ. إلا أن ترامب لم يأبه لذلك لطبيعته الاستعلائية.
نتيجة لذلك، فإن أسهم الشركات انخفضت بشكل كبير، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد خسرت شركة أبل 250 مليار حسب مؤشراتها التسويقية، كذلك أمازون وفيسبوك تصل خسارتهما إلى 24 مليار دولار لكل منهما نتيجة رسوم ترامب الأخيرة. كذلك فإن سوق الذهب العالمي والدولار الأمريكي والعملات المرتبطة به مثل الدينار الأردني وما شابه بحالة مضطربة جدًا.
تقول كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، إن ثَمَّ آثار سلبية عالمية قد تقلص تجارة السلع بنسبة 11% متأثرة بالاقتصاد الأمريكي الذي يمثل 26% من الناتج الإجمالي العالمي. وتقول أيضًا: “إن الرسوم الجمركية التي تفرضها الولايات المتحدة اليوم تمثل بداية مسيرة نحو الاستقلال لأوروبا”. حسب صحيفة الجارديان البريطانية، هذه دعوة لتطوير الصناعات الأوروبية واستقطاب المستثمرين الأثرياء نحو أوروبا. وهذا رد على الضربة التي وجهها ترامب المتنمر برفعه الرسوم الجمركية.
الصين ترد بدورها على ترامب برفع الرسوم الجمركية على الواردات الأمريكية، رغم أن الصين تصدر لأمريكا أكثر مما تستورد، إلا أنها اضطرت للرد على هذا الهجوم لخلق موازنة للمعادلة الصعبة التي فرضها ترامب. بدأت الصين بالبحث عن أسواق أخرى بديلة لأسواق الولايات المتحدة في حال فرضت رسوم وضربات تضعف اقتصادها. وهذا ما جاء بالإعلان الرسمي عن مفاوضات تجارية وفتح أسواق بين الصين وسيؤول وبكين للرد على هذه الحرب.
هذا الحراك قد يقود إلى عزلة أمريكية اقتصادية، بالمقابل جلب أصدقاء جدد للصين. الصين تراهن على منتجاتها، أما أمريكا فتراهن على تحريك كانتونات اقتصادية لزعزعة الأسواق العالمية والاستفادة من العائدات. الصين تراهن على تحسين الإنتاجية، والولايات المتحدة تستعمل سلاح الدولار كورقة ضاغطة. بالمقابل، الولايات المتحدة ترى بالصين تهديدًا حقيقيًا وأنها لا تلتزم بقوانين التجارة العالمية، ويجب الحد من النفوذ الصيني التجاري والعسكري، على حد الادعاء الترامبي.
أوروبا بدأت تأخذ دور المحايد والاستقلالية، من جهة لا تتوافق سياسة ترامب الجمركية مع مصالحها التجارية، ومن جهة أخرى لا يمكن لأوروبا التهافت نحو أحضان الصين التي تسوق نفسها كبديل تجاري ضخم، لاعتبارات تتعلق بالتحالفات مع الولايات المتحدة. مع العلم أنه كما أسلفنا، ظهرت أصوات أوروبية تنادي بالتحرر والاستقلال من السوق الأمريكية التي يقودها ترامب.
هذا بحد ذاته إعلان حرب بمعنى الكلمة. حرب النفوذ الاقتصادي، استقطابات دولية جديدة، تكتلات جديدة، أسواق جديدة، نظام جديد متشعب لا يحتكم إلى سيطرة الولايات المتحدة. يتوقع الخبراء أن الولايات المتحدة سوف تغامر بالدولار ليكون ورقتها الرابحة، من خلال خفض قيمته واستقطاب تجاري بأفق جديد يواجه الصين. وهذا بحد ذاته تصعيد آخر.
الحقيقة أن لا أحد في هذا العالم يمكن أن يتوقع سلوك هذا الهائج ترامب. فإلى أين سيصل بنا هذا التنافس الاقتصادي والتناحر على الأسواق العالمية؟ هل ستتغير معالم النظام العالمي؟ هل سينحصر التنافس عبر الأسواق العالمية، أم أن الانفجار قادم ليختلط الدولار بالدم؟
موقف الشرق الأوسط والعرب:
للأسف الشديد، فإن دول العالم الثالث التي تتسم ببيع مواردها الطبيعية مقابل التزود بالتكنولوجيا الحديثة من دول العالم الأول، تبقى رهينة استهلاكية وسوق مفتوح للتنافس على النفط العربي. الكثير من الدول العربية تؤيد فكرة نظام عالمي متعدد الأقطاب، تشارك فيه قوى مثل روسيا، الصين، وأوروبا، ليشكل نوعًا من التوازن. إلا أن هذا التأييد لا يرتقي إلى نشاط قد يؤثر على الأسواق العالمية والنظام العالمي الجديد، كون العرب، وللأسف الشديد، غير لاعب أساسي في الإنتاجية العالمية، وبعيدين كل البعد عن الصناعة والتكنولوجيا العالمية، فهي ما زالت في إطار المستهلك المتلقي. غير أنها لا تملك الحرية في الاختيار، كونها تتبع تبعية أمنية تحمي عروشها نتيجة التهديدات الأمنية من قبل إيران وإسرائيل، واطماع الدول الكبرى في مواردها الطبيعية، مما يجعلها خاضعة لاتفاقيات يكتبها ترامب ويوقعها ترامب وينفذها ترامب ويحدد قيمتها ترامب كما حدث مع النموذج السعودي. كيف لا، وأن حاملات الطائرات الأمريكية أخذت من المياه الإقليمية العربية مرتعًا ومقرًا لها.
وهذا ما يراهن عليه ترامب في توقيع اتفاقيات مع دول نفطية غنية تحمي الاقتصاد الأمريكي وتعوضه عن أي خسارة قد يتعرض لها. كما قال: “نحن نحمي ظهور الملوك وهم يوقعون على أموال مقابل هذه الحماية”.
ناهيك أن كعب أمريكا بالصناعات العسكرية هو العالي، وأن دول الشرق الأوسط تصرف غالبية أموالها على التسلح نظرًا للتوترات الموجودة في المنطقة. بالإضافة لما سبق، هناك أمور مركزية تحكم سياسات دول الشرق الأوسط، وعلى رأسها قضية فلسطين.
رغم التفاوت بين الدول، تظل القضية الفلسطينية مكونًا مركزيًا في تصور العرب لأي نظام عالمي عادل. الدول العربية تنتقد الانحياز الغربي لإسرائيل، وهذا الانتقاد يتحول أحيانًا إلى نشاط يوجه المعاملات مع الدول الأخرى، فتارة يقاطعون اقتصاديًا دولًا منحازة وأخرى شركات، مما يؤثر على طبيعة العلاقات والموازنات التي لا تحتكم إلى قوانين السوق فقط، بل تحتكم إلى مبادئ عروبية ومواقف سياسية.
إذًا، نحن أمام منعطف جديد في العالم يقودنا نحو نظام عالمي جديد يحتكم إلى المصالح التجارية والتنافس على الأسواق العالمية، لا يمكن أن نتنبأ إلى أين سيقودنا هذا التنافس العالمي. ولا نستبعد أن تتحول هذه الأسواق إلى أنهار من الدماء تدفع فواتيرها الشعوب الفقيرة وأبرياء العالم.
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com