بروفيسور ابراهيم طه: الكبسولة العاشرة.. الفرّاطة والقلم

من عادتي اليوميّة أن أحوص بين الزيتونات قبل المغرب بساعتين. حين أتعب من الكرسيّ والقلم أخرج كي أحرّك أطرافي بين الزيتونات الجميلات العامرات. أتفقّدهنّ واحدة واحدة. أقصقص بالمقصّ طردًا يابسًا أو ضعيفًا هنا وهناك. أنظّف العروق من الفسائل التي تمصّ نسغ الشجرة وتسقمها بدون فائدة. (والنسغ هو المَوِيّة، والمويّة هي ماء الشجرة). أقلع بيوتًا من العلّيق نفشت وشاكت أو من الفاقوع عَلَت وشبّت أو الخبّيزة عست وقست.. وهذه كلّها رياضات.
أبو إبراهيم جار بعيد لا تسعفه ركبتاه في المشي. يمشي بتثاقل وهو يتمايل يَسرة ويَمنة إلى حارتنا كلّ يوم قبل المغرب. وحارتنا متطرّفة قريبة من كروم الزيتون شمال البلد. قبل يومين لمحني أحوص، توقّف، حيّاني، رددت التحيّة بأحسن منها، قال: “نيّالك يا أستاذ بتحوص بين الزتونات مثل السُوّاح. كلّ النهار قاعد على الكرسي لا حرّ ولا قرّ “. أعجبني قوله “لا حرّ ولا قرّ”، واستغربت من أين له هذا! ولم يعجبني التشبيه بالسوّاح.
وهل يظنّ أبو إبراهيم أنّ أمي نورة، رحمها الله، قد ولدتني بروفيسورًا متربّعًا من المهد على كرسيّ الأستاذيّة؟! أنا من جيل الفرّاطة وعصا الرُّعيان يا رجل! لولاها ما ابتعت قلمًا ولا دخلت جامعة. الدنيا كلّها مشقّة. خلقنا ربّنا العظيم في كَبَد. “واللي خلق علق”. هذا حكي الفلّاحين. وحكيهم صحيح، صحيح وحكيم. واقعٌ عشته على جلدي، الذي لم يكن غضًّا منذ ولدت، ألملم حبّات الزيتون الضالّة بين الشوك والقندول وأسرح مع المعزى الشاميّة.
أيّ طاولة وأيّ قلم يا رجل؟!! لا أحد يدرك طول اللذّة وعرضها وعمقها التي كنّا نشعر بها بعد أن نخزّن زيتنا في الخوابي ونضمن لقمتنا في شتاء بارد طويل ثقيل. والمشقّة كانت تزول بخلقينة ماء بارد ننشلها من البئر. كلّ تعب الموسم يزول مع الماء البارد ولا تبقى إلا لذّة الزيت الجديد ولسعته وحرقته نغمسه برغيف طابون من قمحنا الأسمر الذي كنّا حصدناه بالمناجل قبل أربعة أشهر. لا أحد يدرك عمق الراحة والسكينة وهدأة البال بعد موسم الزيتون إلا الذي خبره على جلده وما زال. نغرق الرغيف بالزيت، نرفع اللقمة تقطر زيتًا وتنطف صحّة وعافية.
لماذا تظنّ أنّ الكراسي والأقلام أهون من الفلّ والفراريط؟! اللملمة هي اللملمة. ولا تحسبنّ لملمة المعرفة من الكتب بالقراءة أهون من لمّ الزيتون بين القشّ اليابس والشوك بالأكفّ العارية. الأولى أثرها يصعد من تحت إلى فوق، من البواسير الوقحة إلى الانزلاقات الغضروفيّة في أسفل الظهر فصاعدًا إلى الرقبة حتى صارت مشيتي “مثل شبه المنحرف”، وليرحمك الله يا أبا هشام محمّد نفّاع. والثانية أثرها ينزل من فوق إلى تحت تقدح الشمس الحارقة في رأسك، شمس الصيفيّة القصيرة، تخرق جلدك تشوي لحمك وتنخر في عظمك. تحسّ العرق الأُجاج نازلًا يتفصّد من رأسك إلى قفاك، يتدحرج بين الشقّين يترك ملوحة تجعل مشيتك مفاحجة مثل المفتوق في محاشمه.. ويظلّ السؤال معلّقًا، هل المشي مثل شبه المنحرف أفضل من المشي مفاحجة؟ هذه مسألة فيها وجهة نظر. ولمّا جرّبت المشيتين، وما زلت، أجزم أنهما لا تتفاضلان يا جارنا. رغم أنّ المشي مفاحجة فيه أمانٌ أكبر للكهول، وأنت أدرى بما أقول!

من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى