د. رافع يحيى: حين تهمس الطبيعة وتصرخ الذاكرة!

منذ أن وطأتُ حدائق ألمانيا وأنا منتشٍ بندى صباحها، بظلال غاباتها، وبلطافة تلك اللغة التي تتدحرج كحبات المطر فوق منحدرات الجبال. اللغة هنا ليست حروفًا فقط، بل دروب متعرّجة تصعد بك من الفكرة إلى المعنى، ومن الهمس إلى الصرخة، تمامًا كما تتدرّج قمم الألب من الضباب إلى الضوء.
اللغة الألمانية لا تستقبلك مباشرة، بل تلوّح لك من بعيد. في البداية تُخفي نفسها خلف جدران قواعدها الصارمة، ثمّ تُقَبِّلك فجأة بجملةٍ تنفذ إلى قلبك. كلماتها متينة، وكأنها بُنِيَت من حجارة نهرٍ عتيق. وفي داخلها تعيش أرواح الأدباء والمفكرين: جوته، شيلر، وكانط، والإخوان جريم الذين خيّطوا الحكايات بالخوف والحكمة.
في ممرات الطبيعة الخلّابة، بين صوت الطيور ولون الغيوم، تتشكل اللغة كجسر بين القلب والمكان. في المتاحف، وفي حدائق القصور الباروكية، وفي قطارات المدن، تتسلل التحية:
Guten Tag، Wie geht’s?، Alles klar? —Guten Morgen
وكأن اللغة تمارس التحية كطقس سلام يومي، لا يُشبه السلام السياسي المفقود.
في كل مكان هنا، تشعر أن الطبيعة تتكلّم، وأن الثقافة تستقبلك. لكن مع كل هذه الجماليات، ثمة غصّة في الروح لا يمكن كتمها. كل زهرة أراها في “بون” أو “هايدلبرغ”، أو ألميناو تُذكّرني بوردة قُطِفت في غزة. كل شجرة صامدة في وجه الريح تهمس باسم طفل من خان يونس مات في حضن أمه. كل حجر هنا صامت، لكنّه يعلمني النطق باسم الحقيقة. وتتساءل متى يكون السلام؟! وأين شرق الأمان!
غزة ليست بعيدة، حتى وأنا بين كتب الإخوة جريم واللغة الألمانية. الحكايات هناك تُروى بالدم، لا بالحبر. واللغة هناك لا وقت لها للتصريف، لأنها مشغولة بالبكاء والإنذار والنداء. وما زالت اللغة تبحث عن هانزل وجريتل تحت الركام. تحيّاتي من منحدرات وحقول ألمانيا التي تُعلّمني كيف أن الجمال لا ينفي الألم، وأن اللغة إن لم تكن إنسانية، فهي مجرد جدران صماء.
في ألمانيا، تصير التحية فعل رفض حين تُرسل إلى غزة, وصباح الأمل رغم الخذلان.
ومن بلكونة جوتة…Guten Morgen, Gaza
صباح الخير ، غزة
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com