محمد سامي محاميد: بينك وبين الوظيفة… جملة معرفتش تحكيها

** الكاتب مستشار تنظيمي وموجّه مهني من مدينة ام الفحم

ما إن يدخل الشاب العربي إلى قاعة المقابلة، حتى يبدو وكأنه في طريقه إلى محكمة لا إلى مقابلة عمل. ملامحه مشدودة، صوته خافت، يداه تتعرقان، وكأنّه لا يقدّم نفسه، بل يستعد لحكم بالإعدام! المقابلة، التي يفترض أن تكون مساحة حوار واستكشاف، تتحوّل عند الكثيرين إلى لحظة رعب تُستدعى فيها كل خيبات الماضي، وكل عقدة لم تُحلّ في البيت أو المدرسة أو المجتمع.

تتكرر أمامي مشاهد مؤلمة في صالات التوظيف: شاب يحمل شهادة جامعية عليا، وسيرة ذاتية مليئة بالإنجازات، لكنه يسقط في أول سؤال بسيط: “حدّثنا عن نفسك”. يتردد، يتلعثم، يتجنّب النظر في العيون، يجيب بكلمات مقتضبة، ثم يخرج من الغرفة مثقلاً بأسئلة لا تنتهي: “ليش حسّيت حالي صغير؟ ليه نسيت كل إشي كنت كاتبه؟ ليش ما قدرت أعبّر؟”. وفي الجهة المقابلة، ترى من هم أقلّ كفاءة لكنهم يتحدثون بثقة، يعرضون تجاربهم بتوازن، يعرفون كيف يصنعون انطباعًا أوليًا قويًا. النتيجة؟ تنحاز الكفّة غالبًا لمن “قدّم نفسه”، لا لمن “يحمل المؤهلات فقط”.

الخوف من المقابلة ليس عابرًا، بل له جذور عميقة ومتراكمة. في البيت، الطفل يُسكت حين يعبّر، ويُلام حين يُخطئ، ويُقال له “لا تتفلسف”، حتى وإن كان يسأل من باب الفضول. وهنا يظن كثير من الأهل أن تربية أبنائهم تكتمل بمجرد سدّ احتياجاتهم الفيزيولوجية: طعام دافئ، ملابس نظيفة وسرير مريح. لكن الحقيقة أن كل ذلك، رغم أهميته، بعيد كل البعد عن مفهوم التربية. العناية تُشبع الجسد، تحفظ السلامة، وتوفّر الاحتياجات الأساسية. أما التربية فهي أمر آخر تمامًا؛ هي ما يُبنى في الداخل، في المواقف، في ردود الفعل، في طريقة التعبير عن الذات. التربية تعلّم الطفل كيف يتكلم بثقة، كيف يتعامل مع الفشل، كيف يواجه التوتر دون أن ينهار، وكيف يعبّر عن أفكاره دون أن يرتجف صوته أو تنخفض نظراته. باختصار، العناية تُبقي أبناءنا على قيد الحياة… لكن التربية هي التي تمنحهم القدرة على العيش حقًا.

ومن جذور هذا الخوف ايضاً، ما يتسلّل إلينا في المدرسة والمجتمع دون أن ننتبه. في المدرسة، يُكافأ الصمت والانضباط أكثر من المشاركة والمبادرة، ولا يُمنح الطالب مساحة ليبني صوته وشخصيته. أما في المجتمع، فمن يتحدث عن نفسه يُتهم بالغرور، ومن يعبّر عن طموحه يُقال له “مين مفكر حالك”. هذا التراكم يولّد شبابًا عاجزين عن إظهار أنفسهم حين تحين اللحظة.

ولعلّ أكثر ما يؤلم هو أن كثيرًا من الشباب لا يفشلون بسبب جهلهم، بل لأنهم لم يُدرَّبوا على لغة الثقة. لم يتعلّموا كيف يُقدمون أنفسهم بجملة واحدة، كيف يسردون تجاربهم، كيف يتحكمون في نبرة صوتهم ونظراتهم وجلستهم. المقابلة ليست معركة، لكنها تتطلّب أدوات. وأحيانًا، الوظيفة لا تذهب لمن هو مؤهل، بل للأكثر وضوحًا وجرأة وحضورًا.

آن الأوان أن نعيد النظر في أولوياتنا التربوية والتعليمية. لا يكفي أن ندرّس أبناءنا كيف ينجحون في الامتحانات، بل علينا أن نعلّمهم كيف يعرّفون عن أنفسهم، كيف يتحدثون عن إنجازاتهم باعتزاز، كيف يقفون أمام الآخر دون خوف. نحتاج إلى إدخال مهارات التعبير الشفهي، التوجيه المهني، ولغة المقابلة ضمن مناهج التعليم، منذ المرحلة الثانوية على الأقل. كما نحتاج إلى مجتمع يشجّع أبناءه على التحدّث، لا على الصمت؛ على المحاولة، لا على الخوف من الفشل.

في كثير من المقابلات، لا يُقصى الشاب العربي لأنه غير مناسب، بل لأنه لم يُظهر ما بداخله. وبين ما نعرفه عن أنفسنا، وما يعرفه عنا الآخر، تقف كلمة واحدة لم تُقَل… أو قيلت بصوت مرتجف. المقابلة ليست امتحانًا… لكنها قد تكون مفترق طرق. دعونا نمنح أبناءنا الأدوات لاجتيازها بثقة. فالثقة بالنفس لا تُشترى، بل تُبنى — كلمةً كلمة، وخطوةً خطوة.

من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى