د. جمال زحالقة: شهادات إسرائيلية على الإبادة الجماعية

أعلنت منظمتان إسرائيليتان لحقوق الإنسان، أن إسرائيل ترتكب جريمة «الإبادة الجماعية» في قطاع غزة وأن هناك خطرا أن تمتد الإبادة إلى مناطق فلسطينية أخرى. جاء ذلك في مؤتمر صحافي مشترك، عقده ممثلو منظمتي «بتسيلم» و»أطباء من أجل حقوق الإنسان»، الإثنين الماضي في فندق امبسادور الواقع في منطقة الشيخ جرّاح في القدس الشرقية، واستُعرضت فيه أهم النتائج التي توصّل إليها البحث المعمّق، الذي قامتا به، حول حقيقة وطابع الاستهداف الإسرائيلي للمدنيين والحياة الفلسطينية في غزة، وهذا دليل إضافي إلى أن أي تقييم موضوعي للحالة في غزة يفضي إلى النتيجة ذاتها، إنّها إبادة جماعية، دون ولكن!
هذه المرّة الأولى التي تخرج فيها منظمات حقوق إنسان إسرائيلية باتهام واضح ومباشر عن ارتكاب «جينوسايد» في الحرب على غزة، ما يساهم في تقويض الادعاء بأنّ القول، إن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية هو ضرب من اللاسامية ومعادة اليهود كشعب. وقد سبقت ذلك تقارير ووثائق للعديد من الجهات والمنظمات الدولية، تتضمن إثباتات دامغة على أن إسرائيل تمارس الإبادة الجماعية في حربها الإجرامية على قطاع غزة. وكان في مقدمة هذه الوثائق الدعوى الرسمية التي قدمتها جنوب افريقيا إلى محكمة العدل الدولية وطالبت فيها بإدانة إسرائيل بتهمة الإبادة، والمحكمة نفسها قررت أن هناك شبهات وازنة على صدقية ما جاء في الدعوى. كما أصدرت منظمتا العفو الدولية و»هيومان رايتس ووتش»، تقارير تؤكّد ممارسة الإبادة الجماعية في غزة. وكان هذا هو الموقف ذاته لمنظمات تابعة للأمم المتحدة ولمقررين دوليين. يضع هذا التراكم لمواقف وتقارير منظمات حقوق الإنسان الدولة الصهيونية في قفص الاتهام، مع توفّر أدلّة إدانة دامغة بارتكابها جريمة «الإبادة الجماعية».
تقرير بتسيلم
في المؤتمر الصحافي الذي عقد الإثنين الماضي، لخّصت أورلي نوي، رئيسة مجلس إدارة «بتسيلم» تقرير المنظمة الجديد بالقول: «بعد تحقيق عميق ودقيق توصّلنا إلى استنتاج واحد وهو أن إسرائيل تنفّذ إبادة جماعية في غزة، المسؤولية تقع على عاتق الحكومة الإسرائيلية، وأيضا على عاتق المجتمع الدولي. يجب اتخاذ كل الخطوات الممكنة وفق القانون الدولي لوقف الإبادة». وأشارت منظمة بتسيلم في بياناتها أن التقرير لم يعد كوثيقة قانونية، بل لطرح الأدلة والاستنتاجات حول ما يحدث في غزة. ولكن من المهم الإشارة إلى أن في التقرير (وكذلك في تقرير منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان) بيّنات قويّة يمكن الاستناد إليها في إعداد دعاوى ضد إسرائيل في المحاكم الدولية.
تكمن أهمية تقرير بتسيلم بأنه: أولا، يخرج من منظمة حقوق إنسان إسرائيلية؛ ثانيا، هذه منظمة موثوقة ومهنية وأصدرت مئات التقارير حول الاحتلال، ولم يحدث أن استطاعت المؤسسة الإسرائيلية دحض ما جاء فيها؛ ثالثا، تحظى بتسيلم بثقة واحترام دوليين، وتصل تقاريرها إلى متخذي القرار في الدول المختلفة وتنشر في وسائل الإعلام المركزية، وقد احتل التقرير الجديد عناوين رئيسية في وسائل الإعلام المهمة في العالم؛ رابعا، كسر هذ التقرير أحد المحرّمات الكبرى في إسرائيل وهي استعمال تعبير «الإبادة الجماعية»، المرتبط تاريخيا بمحاكمة النازية؛ خامسا، أوردت بتسليم ما يكفي من الأدلة لإدانة إسرائيل ويمكن استغلال ذلك إعلاميا وقضائيا للدفاع عن حياة الفلسطينيين في غزة وغيرها؛ سادسا، شمل التقرير تحذيرا صريحا من أن إسرائيل قد تقدم على توسيع نطاق الإبادة وقالت يولي نوفيك، مديرة بتسيلم «أصبحت حياة جميع الفلسطينيين، من النهر إلى البحر، مستباحة. بالإمكان تجويعهم وقتلهم وتهجيرهم من مكان إلى آخر. والوضع يزداد سوءا باستمرار».
ليس من الهيّن إثبات تهمة «الإبادة الجماعية»، التي هي أصعب ما يمكن أن يوجّه إلى دولة من الدول. لكن إسرائيل وفّرت ما يكفي ويزيد من الإثباتات خلال عدوانها الإجرامي على غزّة
غالبا، ليس من الهيّن إثبات تهمة «الإبادة الجماعية»، التي هي أصعب ما يمكن أن يوجّه إلى دولة من الدول. لكن إسرائيل «وفّرت» ما يكفي ويزيد من الإثباتات خلال عدوانها الإجرامي على غزّة. هذه تهمة لها معايير واضحة ومحددة في القانون الدولي، وفي جوهرها توفّر إثبات «نية الإبادة»، وقد أوردت بتسيلم ما يكفي من الدلائل على تصريحات وسلوكيات إسرائيلية تثبت قطعيا وجودها بوفرة. كما استعرضت بيّنات كثيرة جدا حول ممارسات الإبادة الإسرائيلية وصولا إلى «استنتاج قطعي بأن إسرائيل تعمل بشكل منسّق وانطلاقا من نوايا واضحة، من أجل تدمير المجتمع الفلسطيني في قطاع غزّة، أي أن إسرائيل تنفّذ إبادة جماعية في قطاع غزّة». من المهم أن تقرير «بتسيلم» تطرّق إلى ما سبق خلال «أكثر من سبعين عاما من نظام قمعي عنيف تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين جميعا ـ وبشكله الأكثر تطرّفا على الفلسطينيين في غزة»، وتطرّق إلى ثلاث خلفيات: أولا، نظام الأبرتهايد الذي يشمل الفصل والهندسة الديمغرافية والتطهير العرقي؛ وثانيا، العنف المنهجي والمنظم تجاه الفلسطينيين والحصانة التي يتمتع بها مرتكبوه؛ وثالثا، نزع الصفات الإنسانية للفلسطينيين واعتبارهم (جميعا) مجرد تهديد أمني وجودي. ويمكن القول إن هذه الخلفيات، إضافة إلى الفزع الإسرائيلي المزمن من الضحية، هي مقدمات ملازمة لارتكاب الإبادة الجماعية، التي نفّذتها إسرائيل بذريعة الرد على ما حدث في السابع من أكتوبر وبادعاء كاذب هو الدفاع عن النفس. وقد اهتمت «بتسيلم» أن تؤكّد أن الإبادة الجماعية محرّمة قطعيا تحت أي ظرف حتى «الدفاع عن النفس».
أطباء من أجل حقوق الإنسان
بالتزامن مع تقرير بتسيلم، أصدرت منظمة «أطباء من أجل حقوق الإنسان» تقريرا، سلّطت فيه الضوء على استهداف المرافق والعاملين في الجهاز الصحي في غزة، وحرمان الناس من الحد الأدنى من الرعاية الصحية، في إطار مشروع الإبادة الجماعية. ولعل «إبادة الصحّة» هي من أفظع الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال، تبعا لقرارات وتوجيهات من القيادتين الأمنية والسياسية في إسرائيل. فبعد أن اخترعت آلة الدعاية الإسرائيلية فرية أن هناك أنفاقا تحت المستشفيات تحوي محاربين فلسطينيين، أصبحت المشافي مباحة للقصف والاقتحام والقنص والتدمير. ووفق تقرير منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان فرضت إسرائيل في بداية الحرب في أكتوبر 2023 إخلاء 22 مستشفى، وبدأت بذلك «هجوما غير مسبوق على الجهاز الصحي في غزة»، وقصف جيش الاحتلال، وفق التقرير، 33 من أصل 36 مستشفى في غزة، وقتلت واعتقلت أكثر من 1800 من الكوادر الطبية. وأشارت المنظمة في تقريرها إلى أن ما تقوم به إسرائيل في غزة يفي بالمعايير القانونية لجريمة الإبادة الجماعية، ووردت في التقرير أدلة كثيرة حول تدمير مقصود وتفكيك متعمّد ومتواصل للجهاز الصحي في قطاع غزة، وكذلك منع الجرحى من العلاج وحرمان الناس، خاصة الأطفال من الطعام (92% من أطفال غزة لا يتلقون غذاء مناسبا وكافيا). وتقدر المنظمة عدد ضحايا القصف والقتل المباشر وضحايا الحرب «غير المباشرين»، الذي لقوا حتفهم لانعدام العلاج والطعام بما يزيد عن مئة ألف. تنكر إسرائيل تهمة الإبادة وتدعي بوقاحة أنّها لا تستهدف المدنيين وتلقي باللائمة على حماس «التي تختبئ بين المدنيين» ـ كما يردد ببغاوات الدعاية الإسرائيلية. وقال الناطق بلسان الحكومة الإسرائيلية، دافيد منتسر، لقناة «سي. إن. إن»، «قواتنا تستهدف المخربين وليس المدنيين، وقد قمنا بخطوات للتقليل من خطر إصابتهم. حماس مسؤولة عن المعاناة في غزة». وادعت وزارة الخارجية الإسرائيلية، في ردّها على التقريرين أن ،»الدوافع سياسية والادعاءات مبالغ فيها ولا أساس لها». وكان رد الجيش الإسرائيلي أنه «يسمح بإدخال المعونات الإنسانية إلى غزة طبقا لتعليمات الحكومة ويسمح للمنظمات الدولية بتوزيعها». ويبدو بين سطور بيان الجيش أنه يحمّل ـ بشكل مبطّن- الحكومة المسؤولية، وأنه «يعمل وفق تعليماتها. تساهم تقارير منظمات حقوق الإنسان في فضح جرائم الحرب والإبادة، وهي قد تكتسب أهمية كبرى إذا جرى استثمارها في المحاكم والمحافل الدولية لضمان إدانة إسرائيل وفرض عقوبات عليها، حتى تمتثل للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية. وحاليا تقوم جنوب افريقيا بإضافة المعطيات والبيّنات، التي وردت في هذين التقريرين، إلى دعواها المقدمة لمحكمة العدل الدولية. وقد آن الأوان أن تتحرّك الدول العربية أيضا، وتلقي بثقلها كلّه لوقف حرب الإبادة الجماعية والتدمير الشامل في غزة، وهي إن توفّرت الإرادة قادرة على حشد ضغوط جدية لوقف نزيف غزة، ولديها ما يكفي من الأدلة لحمل العالم على حشر إسرائيل في الزاوية.
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com