د. جمال زحالقة: علامَ النقاش حول احتلال كامل لغزة؟!

تبعت تصريحات وتسريبات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، هذا الأسبوع، بشأن «احتلال كامل» لقطاع غزة، ردود فعل وتساؤلات كثيرة، حول وجهة إسرائيل في المرحلة المقبلة بعد انتهاء عملية «عربات جدعون» بالفشل في تحقيق غاياتها، والوقف الفجائي لمفاوضات الصفقة المرحلية، التي جرت في الدوحة. وأثار موقف نتنياهو شبه المعلن عن احتلال غزة خلافا شديدا مع قيادة الجيش، خصوصا مع رئيس الأركان الميجر جنرال إيال زامير، الذي عارض بشدّة هذا المخطط، ووصل به الأمر إلى التهديد بالاستقالة ليقوم «المقرّبون» من نتنياهو بالرد عليه، «إذا لم يعجبه الأمر فليستقل». وأطلقت عائلات المحتجزين الإسرائيليين صرخات استغاثة بأن مشروع احتلال غزة هو «حكم بالإعدام على المحتجزين». وفي الوقت الذي روّجت فيه أبواق نتنياهو الإعلامية بأن الولايات المتحدة تدعم مشروع نتنياهو الجديد، لا تنفي الإدارة الأمريكية ذلك، حيث صرّح ترامب «لا يمكنني قول شيء بشأن احتلال غزة والأمر يعود لإسرائيل».
لم يتّخذ بعد قرار رسمي في الكابينت الإسرائيلي بتنفيذ مخطط نتنياهو، وما جرى إلى الآن هو «مشاورات أمنية» غير رسمية، وغير مؤهّلة لاتخاذ القرارات. وما رشح من هذه المشاورات هو أن نتنياهو حسم أمره، ويدعو لاجتياح ولاحتلال المناطق التي لا يوجد فيها الجيش الإسرائيلي على الأرض ويحاصرها من الخارج. وتشكّل هذه المناطق ربع مساحة القطاع ويتوزّع فيها السكان إلى حوالي مليون في مدينة غزة وضواحيها في شمال القطاع، وما يربو على 600 ألف في منطقة المواصي في الجنوب، وحوالي 400 ألف في منطقة دير البلح ومخيماتها في الوسط.

يبدو أن الخيار الإسرائيلي القريب سيقع على تصعيد الحرب إلى درجة أقل من «الاحتلال الكامل» وأكثر من مستوى «عربات جدعون»، وقد يكون ذلك حلا وسطا بين نتنياهو وزامير

معنى «الاحتلال الكامل» للقطاع هو الوصول إلى وجود فعلي على الأرض للقوات الإسرائيلية في جميع أحياء ونواحي غزة ودير البلح والمواصي، وملاحقة متواصلة لقوات حماس في كل شبر فوق وتحت أرض قطاع غزّة. ويستغرق الإعداد اللازم للبدء بمثل هذه العملية الواسعة ما يقارب الأسبوعين، من تجهيز قوات الاحتياط والوحدات العسكرية النظامية، بعدها قد تمتد العمليات القتالية المكثّفة لأكثر من شهر، تليها سنة أو سنتان من تتبع واستهداف متواصل لمقاتلي حماس والجهاد وغيرهما.
يبدو أن إسرائيل ستواصل القتال والإبادة والتدمير في كل الأحوال، لكن هل سيكون ذلك في إطار عملية احتلال شامل، كما يتحدث نتنياهو، أم حصار شامل للمناطق المأهولة في القطاع، مع عمليات استهداف محدودة ومركّزة، كما يقترح رئيس الأركان الإسرائيلي، إيال زامير؟ يظهر من مجمل ما ينشر وما يقال في إسرائيل أن خطة نتنياهو هي للتهديد وليس للتنفيذ. لكن إذا كان الأمر كذلك فعلام الخلاف مع قيادة الجيش؟ هنا يردّ من تحدثوا مع زامير، بأنه يخشى حالة بندقية تشيخوف، التي قد تطلق النار حتى في المشهد الأوّل، ويريد منع اتخاذ قرارات متهوّرة قد تؤدي إلى تدهور يورّط الجيش في ما لا يحمد عقباه.

موقف نتنياهو

ليس واضحا إلى الآن لماذا أوقف رئيس الوزراء الإسرائيلي مفاوضات الدوحة، أوقفها وانبرى يتهم حماس بالمسؤولية عن فشل التفاوض، مع أن مواقف الطرفين كانت متقاربة، وكان بالإمكان التوصل إلى صفقة مقبولة لهما. وحظي نتنياهو على الفور بمساندة أمريكية أوتوماتيكية، تبعا للاتفاق «القديم» مع إدارة بايدن، بأن تعلن الولايات المتحدة أن حماس هي المسؤولة عن الفشل، مهما كان سبب هذا الفشل. وبعد أشهر طويلة من استبعاد إمكانية الصفقة الشاملة، والإصرار على اتفاق مرحلي، صار نتنياهو، ويتبعه ويتكوف، يتحدث عن صفقة شاملة، وحسب ويتكوف: «كل شيء أو لا شيء». من الواضح ما هو كل شيء (صفقة شاملة)، لكن ما هو هذا الـ»لا شيء»؟ هل هو الاحتلال الكامل لغزة كما يدعو نتنياهو هذه الأيام؟ رغم افتعال الضجيج والترويج للعناد في الموقف، حول احتلال غزة فإن الاحتمال الأرجح ـ كما يبدو لي ـ هو أن نتنياهو يقوم بعملية مراوغة وتضليل واحتيال، لتحقيق بعض الغايات؛ أولها، الضغط على حماس للقبول باستئناف المفاوضات، وللموافقة على الشروط الإسرائيلية في الصفقة المطروحة، سواء أكانت مرحلية أو شاملة إن أمكن؛ وثانيها الحفاظ على دعم اليمين المتطرف في حكومته؛ وثالثها، اختلاق خلاف مع قيادة الجيش تمهيدا لاتهامها بالمسؤولية عن عدم تحقيق أهداف الحرب؛ ورابعها، منح شرعية مجددة لمواصلة الحرب وتأطير المرحلة المقبلة من القتال تحت مسمّى جديد، يمكن نتنياهو من الادعاء بأنّه سيأتي بما لم تأت به الأوائل من المراحل.
يبدو من بعض ما ينشره الإعلام الإسرائيلي أن نتنياهو منهك ومتعب ومحبط، وقال مصدر في الحكومة الإسرائيلية، لم يكشف عن اسمه «أشكك في إمكانية أن نتنياهو يريد فعلا احتلال غزة.. في جلسة الحكومة الأخيرة بدا بشكل أسوأ من العادة. وظهر أن حملا ثقيلا يجثم عليه». هو مذنب في قتل عشرات الآلاف وتدمير مدن بأكملها، لكنّه لم يستطع تحقيق الغايات التي حددها ويرددها ليل نهار، ومصاب بالإحباط من عدم إنجاز مآربه المعلنة. ومع ذلك يبقى لديه ما يسيطر عليه بالكامل وهو مواصلة وتصعيد الحرب، والادعاء بأن «النصر قريب». إحباط نتنياهو الحالي ليس مدعاة للشماتة، بل لتوقّع المزيد من القتل التدمير ومن المحاولات اليائسة لتحقيق «النصر».

موقف الجيش

يعارض رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال زامير، مشروع احتلال كامل لغزة، الذي يطرحه نتنياهو. ولا يخفف من هذه المعارضة القول إنه «مجرد تهديد» للضغط على حماس. زامير يخشى أن يتحول التهديد إلى تنفيذ وأن يجد الجيش نفسه في معمعان معركة احتلال مكلفة ومنهكة وخطيرة. وتعود أسباب معارضة الجيش لعملية احتلال غزة بالكامل، إلى أسباب عديدة من أهمّها:
أولا، اجتياح وقصف المناطق، التي يُظن أنه يوجد فيها المحتجزون الإسرائيليون، ستؤدي إلى قتلهم وحتى اختفاء جثثهم تحت الركام. وزامير لا يريد أن يتحمل مثل هذه المسؤولية، وهو يحاول إلقاء الكرة في ملعب الحكومة، من خلال التأكيد على هذا الخطر في جلسات الكابينت. وكأنّه يقول للوزراء «أحذّركم من تبعات قراركم».
ثانيا، يرى زامير أن الجيش غير جاهز لمثل هذه العملية الواسعة، التي تلزمها أعداد كبيرة جدا من الجنود. ويجد قادة الجيش صعوبة في تنفيذها والوحدات النظامية منهكة وغير متحفّزة للقتال وقوات الاحتياط متعبة، ويتهرب الكثير من أفرادها من الاستجابة لاستدعاءات المثول في وحداتها. كما يخشى قادة الجيش الإسرائيلي من خسارات كبيرة في الأرواح ومن التورّط في حرب استنزاف طويلة قد تمتد لسنوات.
ثالثا، يعرف الجيش أن الاحتلال الكامل يعني المسؤولية الكاملة عن إدارة الحياة اليومية للناس، من توفير الطعام والمأوى والرعاية الصحية والكهرباء والماء والوقود وغير ذلك. ويقدّر الجيش بأنه بحاجة إلى قوات ضخمة لفترة طويلة، للقيام بالمهمة، إضافة إلى تكاليف باهظة قد تصل إلى 10 مليارات دولار سنويا.
رابعا، احتلال كامل لغزة سيؤدي، بنظر الجيش، إلى تعريض إسرائيل إلى المزيد من العزلة على الساحة الدولية، ويفاقم سخط العالم عليها وعلى ممارساتها. ما سيدفع دولا كثيرة إلى فرض عقوبات، وحتى حظر بيع أسلحة لإسرائيل، إضافة لذلك يسعى الجنرال زامير إلى عدم التورّط مع المحكمة الدولية، وهو يرى أن الدخول في قتال كثيف في مناطق مأهولة قد يعرّضه هو وضباطه وجنوده إلى محاسبة وفقا للقانون الدولي.

مفترق طرق

بعد انتهاء عملية «عربات جدعون»، وإعلان فشل مفاوضات الدوحة، تجد القيادة الإسرائيلية نفسها أمام مفترق كيف تستمر؟ لديها أربعة اتجاهات محتملة: الأوّل، مواصلة التصعيد في محل ما بين مستوى العدوان القائم وحرب الاحتلال الكامل لغزة؛ الثاني العودة إلى مفاوضات الصفقة الجزئية، وهي لم تُغلق بابها وقد تعود إليها ضمن سياقات وشروط معيّنة؛ الثالث، البدء بمفاوضات حول صفقة شاملة، وهي لم تبدأ إلى الآن. ونتنياهو يدعو إليها كلاميا، لكنّه لم يلجها فعليا ولم يطرح مسارا للدخول فيها؛ الرابع، وقف الحرب من طرف واحد واشتراط إعادة الإعمار بنزع سلاح حماس – كما يدعو الصحافي الإسرائيلي إيهود يعاري، المقرّب من أوساط أمنية إسرائيلية وأمريكية.
يبدو أن الخيار الإسرائيلي القريب سيقع على تصعيد الحرب إلى درجة أقل من «الاحتلال الكامل» وأكثر من مستوى «عربات جدعون»، وقد يكون ذلك حلا وسطا بين نتنياهو وزامير. هذا يعني بالسطر الأخير أن إسرائيل تندفع نحو مواصلة حرب الإبادة الجماعية والتدمير الشامل غير آبهة بالموقف الدولي الغاضب. والسؤال متى ستتحرك الأنظمة العربية والنظام الفلسطيني الرسمي؟ من المهم التأكيد أن هناك ثمنا لدعم غزة على محور العلاقة بالولايات المتحدة وبإسرائيل والأهم التأكيد أن إنقاذ غزّة يستحق هذا الثمن!

من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى