نادية كيوان: حين يتكلم العمى بلغة البصيرة وتبكي البصيرة غياب العمى!

ليست هذه الحكاية مجرّد قصة حب بين رجل ضرير وامرأة أبصرته حين أعماه العالم، بل هي نشيد إنسانيّ نادر، تتردّد فيه أصداء البصيرة حين تعانق العمى، والحضور حين يحتضن الغياب.

طه حسين، ذلك الذي نُعت بـ”عميد الأدب العربي”، لم يكن بحاجة إلى عينين ليرى، بل إلى قلبٍ واحد فقط… قلبها. كتب لها:

«بدونكِ أشعر بأنّي أعمى حقًّا. أما وأنا معكِ، فإنّي أتوصل إلى الشعور بكلّ شيء، وأنّي امتزج بكل الأشياء التي تحيط بي.»

كأنما كانت هي عينه التي لا يرى بها، بل يحسّ بها، يلمس بها معنى الحياة. لم يكن الحب عند طه حسين ترفًا عاطفيًّا، بل وسيلته للوجود، للبقاء، للتنفس في عالمٍ صاخب أُطفئت فيه أنواره منذ طفولته، لكنّه استنار بحبها.

إنّ هذا القول لا يُقرأ كعبارة غزلية فحسب، بل كوثيقة شعورية عن قدرة الحبّ على اختراق العتمة، وتحويل النقص إلى اكتمال.

لم يكن عماه نقصًا في وجودها، بل كان حافزًا للذوبان في كينونتها، ليشعر أنه جزء من الكون، بل من كلّ شيء.

ثم، حين فارق الحياة، كتبت زوجته المخلصة:

«يقلقني عجزِي عن إعادتك إلى قربِي ويقنطني. أعرف أنك تحيا، ولكن أين؟ وكيف؟… آه، ما أبعدك يا صديقي!»

يا لها من مفارقة دامعة: كان هو ضريرًا تضيئه، فأصبحت هي مبصرةً يُعميها الغياب.

هكذا انقلبت الأدوار: العمى انتقل من جسده إلى وجدانها، والبصيرة غادرَت حضورها إلى مجهول غيابه.

في كلماتها حنينٌ لا يُقاوَم، لكنه ليس حنينًا عاديًّا، بل صرخة وجودية، كأنها ترفض فكرة أن يموت من أضاء قلبها، وتسأل: كيف يعيش من كان لي كل الحياة، ثم يختفي؟ كيف يستمرّ الكون بدونه؟ كيف أرى دون أن أراه؟ وكيف أتقدّم دون أن أسمع خطواته من خلفي؟

في هذه المراسلات الوجدانية، يُعاد تعريف الحب لا كعاطفة، بل كضرورة وجودية. كحالة من الانصهار الكامل بين اثنين، لا تلغيهما الحياة، ولا يفرّقهما الموت.

طه حسين وزوجته ليسا مجرد عاشقَين… هما شهيدان في محراب البصيرة، وناجيان من جحيم السطحيّين الذين يختزلون الحبّ في لغة الجسد أو حضور العين.

هما مثالان حيّان لحبٍ لا يبصر بعينٍ، بل يُبصِر من خلال القلب.

لهذا…

ربما كانت رسالة طه حسين تقول:

«من قال إنّ العمى في غياب البصر؟ إنّ العمى في غياب من نحب.»

وربما كانت رسالتها تقول:

«من قال إنّ الغياب في موت الأجساد؟

إنّ الغياب الحقيقي حين لا يعود الحبّ قادرًا على منحنا الحياة بعد رحيل من كنّا نراهم بكلّ تفاصيلنا.»

فما بين العمى والبصيرة، كتب الحبّ روايته الأصدق.

رواية لا تُقرأ… بل تُعاش.

 

من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى