د. لبابة صبري: قراءة أنثروبولوجية في دراما الذاكرة والمستقبل

- الملخص
يعالج هذا المقال المسرحية الفلسطينية “المنشية” للكاتب المسرحي الدكتور سامر الصابر من منظور أنثروبولوجي معاصر، بوصفها عملًا فنيًا يعيد تشكيل الذاكرة الجمعية الفلسطينية من خلال استراتيجيات درامية حداثية، أبرزها تقنية “الاسترجاع الدائري” التي تظهر في تكرار المشاهد الأولى في نهاية المسرحية. تُمثّل المسرحية سردية متداخلة الزمان، تمتد من عشرينيات القرن الماضي حتى مستقبل متخيل في الفضاء، وتُفعّل الحنين كأداة مقاومة للهدم والتهجير والنسيان. يقترح المقال أن المسرحية لا تروي تاريخ المنشية فقط، بل تعيد بناء علاقة الفلسطيني بالمكان من خلال أدوات أدائية تحفّز التفكير الجمعي وتحاكي تجارب “الزمن الممزق”. ويستند التحليل إلى مفاهيم أنثروبولوجيا الذاكرة، والمسرح ما بعد الاستعماري، وآليات التلقي الجماعي في السياقات الكولونيالية.
- مقدمة: دراما الذاكرة والمسرح السياسي
في زمن تتكثف فيه الأسئلة حول جدوى المسرح، تأتي مسرحية “المنشية” لتعيد تفعيل الوظيفة الجذرية للفن المسرحي بوصفه أداة مقاومة وتأريخ ومساءلة. تقدم المسرحية قراءة درامية لحياة الفلسطينيين في حي المنشية بيافا قبل نكبة 1948، لكنها في جوهرها استدعاء ذكي للماضي داخل الحاضر الفلسطيني المتصدّع في عام 2025.
تتبنى المسرحية أدوات المسرح المعاصر، بما تحمله من طبقات سردية مشظاة، وتمزج بين التمثيل الواقعي والسخرية والمفارقة، إلى جانب تقنيات مأخوذة من المسرح العالمي المقاوم مثل مسرح أوغوستو بوال ومسرح بريشت الملحمي. تنسج المسرحية نصًا أنثروبولوجيًا مركبًا عن الأسرة والمدينة والمستعمر والزمن، وتُبقي المتفرج في حالة من التوتر بين الحنين والغضب والسخرية.
- التصدّع الزمني والبنية الدائرية
أحد أبرز تقنيات البناء الدرامي في المسرحية يتمثل في تشظي الزمن المسرحي، الذي يُفكك الخطية التقليدية ويؤسس لبنية دائرية تتجاوز مفهوم البداية والنهاية بمعناهما الكلاسيكي. تبدأ المسرحية بمشهد يومي في حي المنشية، ثم تتوالى الأحداث باتجاه الماضي والذاكرة. لكن المفاجأة الكبرى تحدث في الخاتمة، حين تلتقي جميع الشخصيات داخل فضاء القبر – فضاء ما بعد الحياة – ويتبادلون الحديث عن الحيّ الذي عاشوا فيه، وعن مصائرهم التي تلاشت في دوامة النكبة.
ضمن هذا الفضاء، تظهر سنية، وقد وصلت بدورها إلى المقبرة، لكنها ترفض الموت الرمزي. تصرخ بأنها لا تزال تنتمي إلى الحياة، وتصرّ على العودة إلى المنشية. عندها، تقول لها الشخصيات: “عودي إلى المنشية!”.
وهنا تقع نقطة التحول الكبرى: فجأة، يرى المشاهدون المشهد الأول من المسرحية يُعاد، ولكن من زاوية مختلفة – من وجهة نظر سنية العائدة من القبر. يعيد المسرح تمثيل الحياة كما تتذكرها هي، قبل أن تعود لاحقًا إلى القبر، في حركة رمزية مزدوجة تجمع بين النفي والعودة، بين الإحياء والوداع.
إن هذه البنية الدائرية تُمثل تشظيًا للزمن المسرحي، وتكسر الإيهام، لتُذكّر المشاهد أن ما عاشه في المسرح هو انعكاس لحياة لا تزال تتكرر، وأن الشخصيات التي ماتت – رمزيًا أو فعليًا – ما تزال حية في الذاكرة والحنين. عودة سنية ثم اختفاؤها مجددًا في القبر تعكس سؤالًا وجوديًا عميقًا: هل يمكن للمنشية أن تُبعث من جديد؟ أم أنها قدرٌ لا يُمكن استعادته إلا في المسرح والذاكرة؟
- الراوي: صوت الذاكرة والسكوت المُركّب
يلعب الراوي في مسرحية “المنشية” دورًا جوهريًا في بناء الذاكرة الجماعية وتفكيك الخطاب التاريخي، يتحرك على تخوم الزمن والمكان، بين ما يُقال وما يُخفى. يتدخل في محطات متعددة ليقدّم شهادات متقطعة عن تاريخ المنشية، مستخدمًا تعبيرًا لافتًا يتكرر: “فيه أشياء بتنحكى، وفيه أشياء ما بتنحكى”.
هذه العبارة تحمل وظيفة درامية عميقة، تفتح فجوة في الرواية الرسمية، وتُشير إلى الأثر الصامت، المكبوت، وغير القابل للسرد ضمن التاريخ الاستعماري والمهجَّر. وهكذا يصبح صوت الراوي مرآة للوعي الفلسطيني الذي لا يثق بالسرد الرسمي، ويبحث دائمًا عن طريقة ليقول ما لا يُقال – أو ليُحافظ عليه حيًّا رغم القمع، عبر المسرح.
- المسرح كفضاء أنثروبولوجي
تعدّ الشخصيات في المسرحية نماذج اجتماعية مشحونة بالحمولات الثقافية والطبقية. أبو صبحي، الرجل الغني المحافظ، يمثل الذكورة الاقتصادية التقليدية، بينما زوجته مريم (أم صبحي) تترنح بين الصمت والتمرد. سنية، ابنتهما، تقع في صراع بين الحب والطاعة العائلية. أحمد، الشاب المثقف الذي يعمل بائعًا للجرائد، يجسد التوتر بين الثقافة والعمل اليدوي. شخصية زهران، بائع الفول، والتي تتقاطع مع شخصية علي ابن أبو صبحي وأبو شمسية المجنون، تشكل شخصية مركّبة تمزج بين الهامشية والوعي المجنون والسخرية.
هذا التعدد في الطبقات يتيح قراءة المسرحية كحقل أنثروبولوجي كامل عن العلاقات العائلية والطبقية، وتحوّلات المدينة، ومكانة النساء، وفسيفساء المجتمع الفلسطيني العثماني والبريطاني – قبل أن يحلّ عليه الاستعمار الصهيوني.
- السخرية كأداة مقاومة
المسرحية مشبعة بالسخرية الذكية التي تستهدف مفاهيم مثل “الحداثة الغربية”، و”العلم”، و”العالم المتقدم”. من بين المشاهد الساخرة، حوار حول “محطة فضاء في المنشية”، مما يعكس حالة التناقض بين الواقع البائس والطموح اللامحدود، وبين ما نراه وما نُجبر على تصديقه.
وفي مشهد آخر، تنتقد المسرحية الموقف الأميركي من الاستيطان، حيث يُطرح تساؤل ساخر: “هل نستقبل مهاجرين من أمريكا؟”، في تلميح ناقد إلى العلاقة المعقدة بين الاستعمار والتمويل والسياسة.
أما السخرية حول الأوروبيين الذين “لديهم حساسية من الحليب…. لكنهم يأكلون الجبنة المعفنة”، فتُقدَّم كرمز لفجوة العقلانية الغربية وتناقضها الداخلي، وارتباك المعايير التي تستند إليها السلطة الثقافية العالمية.
- سياق التلقي الفلسطيني المعاصر
عرضت المسرحية في القدس عام 2025، في سياق سياسي وإنساني يشهد مآسي شبيهة بتلك التي عاشها الفلسطينيون عام 1948. المشاهد لا يرى فقط حي المنشية، بل يرى غزة وخانيونس والضفة والقدس، في لحظة واحدة. إن استدعاء حي مهجّر منذ النكبة هو استدعاء لجغرافيا تُمحى من الحاضر ولكنها ما تزال حيّة في المسرح.
كان تلقي الجمهور الفلسطيني للمسرحية متأثرًا بما يجري على الأرض: من تهجير، قصف، وطمس للمعالم. في هذا السياق، تصبح المسرحية وسيلة للمقاومة الجمالية والسياسية والوجدانية.
- المنشية ضمن تيار المسرح المقاوم
يندرج عرض “المنشية” ضمن تقليد عالمي عريق من المسرح المقاوم، الذي يوظّف الأداء الحي كأداة سياسية وثقافية لتفكيك أنظمة القمع، وإعادة مساءلة السرديات الرسمية حول الهوية والذاكرة والتاريخ. على غرار أعمال أوغوستو بوال في البرازيل وأرييل دورفمان في تشيلي، يُفعّل سامر الصابر أدوات درامية ناقدة، تقوم على السخرية وتعدد الأصوات والتلاعب بالزمن المسرحي، لتعرية الاستعمار وتفكيك السلطة، وتحريك فضاء الذاكرة من موقع الغياب إلى الحضور. تستدعي المسرحية في بنيتها الدائرية وتعدديتها الصوتية تقنيات مسرحية تذكّر بأعمال دورفمان، لا سيّما Death and the Maiden، حيث يُعاد تمثيل الماضي تحت ضغط الحاجة إلى العدالة والبوح. كما تُحاكي البُنية التفاعلية لأوغوستو بوال، الذي حوّل الجمهور من مشاهد صامت إلى فاعل مشارك في تفكيك الواقع وبنائه مجددًا.
لكن “المنشية” لا تكتفي بالاستعارة من هذا الإرث، بل تخلق لغتها الخاصة – لغة مشبعة بالذاكرة الفلسطينية الجمعية، نابضة باللهجة العامية، ومشدودة بين الحنين والمقاومة. يتجسد الجسد الفلسطيني المنفي على خشبة المسرح، ويعيد تمثيل ما مُحي من الكتب والخرائط. كما تفتح المسرحية أرشيفًا شعبيًا حيًا، تعيد فيه للمنسيين أصواتهم وأجسادهم، وتحوّل الخشبة إلى فضاء معرفي يُنتج سردًا بديلًا، وينتمي بوضوح إلى خطاب عالمي ما بعد كولونيالي، حيث تُصبح المسرحة أداة للمقاومة، البوح، والنجاة.
- خاتمة
“المنشية” هي مسرحية عن الإنسان الفلسطيني، وعن الزمن المتقطع، وعن الأب الذي يحاول أن يكون حارسًا لذاكرة مدينته، والأم التي تحارب بصمت، والابنة التي تحب، والشاب الذي يحمل جريدة بيدٍ وحلمًا بالعلم في اليد الأخرى.
في لحظة عربية تزداد فيها العزلة والسردية الواحدة، تعود هذه المسرحية لتقول: التاريخ لا يُمحى، بل يُعاد تمثيله. والفضاء المسرحي الفلسطيني ما زال قادرًا على إنتاج فن مقاوم، حيّ، وذكي، لا يهادن، ولا ينسى.
** شكر وتقدير
أتوجه بجزيل الشكر والتقدير إلى الكاتب والمخرج المسرحي الدكتور سامر الصابر على نصه الغني بمستويات متعددة من الرمزية والسخرية والتأمل التاريخي في مسرحية “المنشية”. كما أخص بالشكر المخرجة مارينا جونسون، والممثلين: حسام أبو عيشة، شادن سليم، فراس فراح، ياسمين شلالدة، عزت النتشة، فاطمة أبو علول، ومحمد باشا، وفريق العمل التقني من: رمزي الشيخ قاسم (تقنيات)، روان أبو غوش (ملابس)، عدي الجعبة (تصميم صوت)، ونديم سمارة (تشغيل الصوت).
كل الشكر لـ مسرح الحكواتي – المسرح الوطني الفلسطيني في القدس ومديره عامر خليل على احتضان هذا العمل، الذي جمع بين فن الأداء والذاكرة والبحث الاجتماعي في مسرحية تُعرض في القدس وتتحدث عن حي المنشية في يافا.
** المراجع:
1. الصابر، سامر (2025). المنشية. نص مسرحي. إنتاج: المسرح الوطني الفلسطيني (الحكواتي)، القدس.
2. الحكواتي – المسرح الوطني الفلسطيني (2025). إعلان مسرحية المنشية [مادة إعلانية]. القدس: صفحة المسرح الرسمية.
3. أبو العسل، عارف. (2020). المسرح الفلسطيني: بين السردية الوطنية وتحولات الذاكرة. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات.
4. بوال، أوغوستو (2008). مسرح المضطهدين. ترجمة: هشام علي. القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة.
5. طه، فواز (2019). الأنثروبولوجيا والحنين: دراسات في الذاكرة الجمعية. عمان: دار كنوز المعرفة.
6. Barakat, H. (1993). The Arab World: Society, Culture, and State. University of California Press.
7. Brecht, B. (1964). Brecht on Theatre: The Development of an Aesthetic. Edited and translated by John Willett. New York: Hill and Wang.
8. Taylor, D. (2003). The Archive and the Repertoire: Performing Cultural Memory in the Americas. Duke University Press.
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com