د. رافع يحيى: الجزيرة المفقودة!

كان سارح الكنباي أمام خيارين، إمّا أن يشرب الأفيون أو يسافر لجزيرة بعيدة لينسى…
كان الخياران على مرمى حجر من سارح الكنباي، انتظر النّاس قراره بلهفة، كأنّهم ينتظرون إحراز هدف لصالح فريق يشجّعونه. وهذه ليست المرّة الأولى الّتي يلتقط فيها النّاس أنفاسهم ليتلقّفوا ردًا من سارح الكنباي، فحينما بلغ سارح العشرين من عمره، استفزّه بعضهم بسؤالهم إيّاه عن مصدر اسمه الشّخصي سارح، من منحه له؟ هل هو اسم موروث؟ هل كان تلبّسه له صدفة؟ وأسئلة كثيرة أخرى كانت تتزاحم على عتبات شبابه بشراسة.
ما زال الجميع يذكر ذلك الاعتراف القديم، كأنّه البارحة. دخل سارح الكنباي إلى غرفة نوم والده وفي صدره السّؤال الصّعب، يتحشرج باحثًا عن نقطة ضوء. طرق الباب بخشونة ثور. فزع والده وأحسّ أن سقف الغرفة سيسقط على جسده العاري الفزع، كمن ولدته أمّه للتو.
ردّ عليه والده بعصبيّة مريرة، ماذا تريد يا كلب!
– عاوزك !
– بعدين!
فتح الباب كطفل غشيم، فشهقت أمّه أوّلًا، وغطت كتفيها بأطراف اللّحاف وأحمرّ وجهها. أمّا أبوه فنهره، مولولًا، صارخًا، يا واطي، يا مفطّس، هيك علّموك بالمدارس، تدخل دون إذن!
– يابا عاوزك!
– حدا يفهّم هالثّور بأنّي في قيلولة مع زوجتي!
– يابا أنا لم أدخل المدرسة حتّى يربطوني!
– وبتتناغش يا ابن العرص!
أخرج والده بخفة زجاجة ماء كانت تحت السرير وألقاها عليه كقنبلة يدويّة، لو أصابته في رأسه لأردته قتيلًا. ومن حسن حظّه أنّها داعبت فقط كتفه الأيمن.
فرّ سارح الكنباي من الغرفة كعصفور دويري وهو مذعور يتّقي شرّ أفعى. ثمّ هام على وجهه في الشّوارع كقط، ينتقل من زقاق إلى طريق، ومن طريق إلى حاكورة وشارع. كانت الصّور تلاحق جسده اللّاهث، وجه أمّه المضيء كنجمه والهادئ كملاك، منظر أبيه وهو يلقي بزجاجة الماء تجاهه، والأهم من ذلك كلّه خرج من البيت دون إجابة!
اتّجه عطشًا نحو البراري. تحوّل جبينه إلى مناخ استوائيّ، لكنّه لم يكترث لصراخ جسده ومضى في طريقه، وهو يحدّث نفسه، ماذا سأقول لهم؟ ماذا سأقول للنّاس؟ سأخترع كذبة معقولة، كذبة تصدّق، كذبة تروي عطشهم وفضولهم، أي شيء يسكت غرائزهم سيفي بالغرض على أكمل وجه. سأخبرهم أنّ أبي كان عاشقًا لذا كان سارحًا طوال الوقت، فأحبّ أن يؤرخ هذه البرهة الزمنية من حياته باسمي وهذا ما جناه عليّ أبي وما جنيت على أحد. هل سيصدّقني النّاس؟ ربّما. ولكن لو صدقوني، سيصل الخبر لأبي، عندها سيقذفني بصاروخ لاو، سينسفني! فليكن، وبعد نجاتي من قذيفة الزجاجة سأنجو من أيّ صاروخ محتمل، لقد صدق والدي، أنا ثور!
عاد سارح إلى القرية وأشاع حكايته التعليلية، الوهمية، على مسامع أهل البلدة ليحلّوا عنّي…
هل انتهت حكاية الاسم، هكذا ظنّ سارح الكنباي، لكنه فوجئ بعد سنوات ببعض النّاس في بلدته يطالبونه بالإفصاح عن سر اقتران اسمه بالكنباي، تضايق في سرّه، وقال بقرف، ماذا يريدون! ماذا يريدون منّي! لا حدود لهم! عفتهم! عالم مصديي!
وماذا سأقول لهم هذه المرّة! والدي لا يعرف لماذا أحمل هذا الاسم الغريب! ومنذ أن بدأ النّاس بالاستفسار عن اسمي، أصيب والدي بالزهايمر وأمّي ضيّعت، وكملت على رأسي! ولكن الله وهبني عقلًا، ظننت من خلاله أنّ كل نساء العالم مريم العذراء وكلّ الرّجال “أبو بكر الصّديّق” وأنّ السّماء واسعة وكلّ الأساطير قد حدثت يومًا. صحيح أنا ثور، ولكن مرّات أقرأ وأتمتّع، وآخر ما قرأت، تخيّل لو انّك تعيش في جزيرة نائية؟
رمى جسده بثقل على الكنبة الكبيرة، تأمّل الشّجرة الخضراء الكبيرة من تحت، لم ير السّماء الواسعة، فقد حجبتها الأغصان الخضراء المتشابكة. كان النسيم العليل يلامس جسده الضخم، أحسّ بلذّة تلاعب جسده المقهور، المتعب، فجأة أحسّ بجسم صلب يلامس ظهره ويشاكس خاصرته، نهض مذعورًا ، لامست يده الكنبة، أخرج الجسم الصلب، فكان مسدّسًا. لم يتضايق ولم يفرح! اعتبره حدثًا طبيعيًا. بل شعر براحة غريبة حينما بال عليه، حيث دفنه بمحاذاة ساق الشّجرة.
ضحك في سرّه وهو يبول، ثمّ قال لنفسه بارتياح، وجدتها، سأخبر الجميع بأنّ هناك خريطة تحت الشّجرة لجزيرة مفقودة، سينشغل النّاس بها طويلًا. وسيشبكون لوحدهم قصّة الجزيرة المفقودة مع الشجرة مع الكنبة مع اسمي. لقد بعتهم ما سيرضي فضولهم…

من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى