د. جهينة عمر خطيب: اغتراب المثقف في زمن الزيف

يعيش المثقف الحقيقي اليوم شعورًا بالغربة وسط مشهد ثقافي مضطرب، تسوده مظاهر الزيف والنفاق، وتعتليه أصوات لا تعبّر بالضرورة عن قيم الفكر والأدب، بل عن نزعات استعراضية محكومة بمنطق التفاخر والصور والتصفيق. في مثل هذا الواقع، تتجلى معاناة من يدرك أن الكلمة ليست وسيلة للتسلّق أو لبلوغ المنابر، بل مسؤولية أخلاقية ورسالة إنسانية تسعى لتنوير العقول وتطهير الوجدان.
إنَّ إحساس الفرد بأنه غريب في عالم لا يشبهه يتجاوز حدود التجربة الشخصية ليصبح ظاهرة وجودية يعيشها كل من يحاول أن يسبح ضد التيار، في زمنٍ يعلو فيه صوت التافهين على المنابر، وتُصفق فيه الجماهير لنصوص واهنة تُنسج على عجل، حتى وصل الحال إلى التباهي بأدب مُصطنع مأخوذ من برامج آلية، يُقدَّم على أنه إبداع. هنا، ينقلب ميزان القيمة، فيُتَّهَم الناقد الجاد وصاحب الإصدارات الأكاديمية الأصيلة بالاقتباس والسطحية، رغم أن مسيرته الممتدة كانت شاهدة على عطائه قبل أن يولد عصر هذه الأدوات.
هذا التزييف لا يقف عند حدود الأدب وحده، بل يتسرّب إلى فضاءات المنتديات والمؤتمرات، حيث تغدو بعض التجمعات الثقافية منصات للظهور والوجاهة، أو مساحات لتصفية الحسابات، وأحيانًا ساحات للتوظيف السياسي والمصالح غير الأخلاقية. فتصبح الثقافة رهينة نزاعات صغيرة، بينما يُهمَّش صوت الحقيقة ويُستبعَد الباحث عن المعنى.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: ماذا يفعل أمثال هؤلاء الذين يرفضون هذا الواقع؟ هل يُعَدّون متخلفين أو متوحدين لأنهم لم يُسايروا زمن “العهر الثقافي”؟ أم أنهم، في عزلة اغترابهم، يحافظون على آخر ما تبقى من صدق ونقاء في الحياة الأدبية والفكرية؟
لا شك أن هذا الواقع يشي بعمق الأزمة القيمية التي تعيشها مجتمعاتنا، حيث تحوّل الأدب إلى سلعة، والناقد إلى مُتَّهَم، والمؤتمرات إلى مظاهر صاخبة بلا مضمون. غير أن هذه الأزمة، على قسوتها، تكشف أيضًا عن فرادة من يتمسكون برؤية مغايرة، ويدافعون عن أدب حقيقي ونقد جادّ، حتى وإن اعتُبروا غرباء. فالزمن قد يتلوث، لكن الحقيقة تبقى عصية على الطمس.
إن مواجهة هذا الواقع تتطلب من المثقف أن يصون ذاته أوّلًا من الانجرار، وأن يُدرك أن دوره لا يُقاس بتصفيق العابرين ولا بضجيج الصور، بل بما يتركه من أثر فكري وإنساني ممتد. ولعلَّ الغربة في زمن الزيف ليست ضعفًا، بل هي علامة نقاء، وتأكيد على أن المثقف الأصيل يظل شاهدًا على انحطاط المرحلة، وفي الوقت نفسه حاملًا لشعلة الأمل في عودة التوازن إلى المشهد.
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com