د. جمال زحالقة: الصفقة: «حماس» وافقت فماذا عن إسرائيل؟

أبدت حركة حماس، ومعها فصائل فلسطينية أخرى، هذا الأسبوع موافقتها على الصفقة الجديدة، التي اقترحتها مصر وقطر، بعد مشاورات ومداولات مكثّفة في القاهرة. وتكاد هذه الصفقة أن تكون نسخة طبق الأصل لمقترح المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، التي سبق أن وافقت عليها إسرائيل، والتي شملت وقفا لإطلاق النار في غزة لمدة 60 يوما وإطلاق سراح محتجزين إسرائيليين مقابل أسرى فلسطينيين، ودخول مساعدات إنسانية بكميات كبيرة، مع استمرار المفاوضات خلال فترة الهدنة المؤقتة للتوصل إلى اتفاق إنهاء الحرب. ولم يخرج، حتى كتابة هذه السطور، موقف رسمي من الصفقة، التي قبلت بها حماس، لا من الحكومة الإسرائيلية ولا من الإدارة الأمريكية، لا بالموافقة ولا بالرفض.
تفيد بعض المصادر أن المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، كان على تواصل مع القاهرة بشأن الصفقة الجزئية، وأنّه شجّع التوصل إليها، وأعرب عن دعمه للمقترح المصري القطري، الذي وافقت عليه حركة حماس. لكن ليس من الواضح إلى أي مدى كان ويتكوف على تواصل وانسجام مع ترامب بهذا الشأن. وتطرقت المتحدثة باسم البيت الأبيض لهذا الموضوع، متباهية بأن المقترح الذي وافقت عليه حماس، جاء بعد بيان قوي للرئيس على منصة «تروث سوشيال» (الذي جاء فيه أن تحرير المحتجزين سيأتي بعد القضاء على حماس)، وأردفت أن «الولايات المتحدة تواصل مناقشة المبادرة، وأترك للرئيس إعلان الموقف النهائي بصددها».
من نافل القول إن الموقف الأمريكي في غاية الأهمية، لأنّه يؤثر على القرار الإسرائيلي إلى حد كبير، لكن واشنطن هذه الأيام تنتظر موقف تل أبيب، بعد أن «تركت» ـ كما يشاع- غزّة لإسرائيل. وفقط بعد أن تقرر الحكومة الإسرائيلية موقفها وتبعث به إلى الإدارة الأمريكية، ستعلن الأخيرة قرارها، وحتى لو جاء الإعلان الأمريكي قبل الإسرائيلي، فسيكون ذلك استنادا إلى تفاهم مسبق بين الطرفين. وقد شهدنا في الأشهر الأخيرة سلسلة من الحركات الدائرية: إسرائيل تبعث سرّا للولايات المتحدة قرارها ومطلبها بالنسبة للموقف الأمريكي، والإدارة الأمريكية تستجيب لتعلن تل أبيب بعدها تبنيها للموقف الأمريكي، الذي صاغته هي أصلا.
من المرجّح أن تبقى استراتيجية مواصلة حرب الإبادة هي خيار سيد الجريمة الإسرائيلي
وإذ ينتظر الجميع رد إسرائيل على الصفقة الجزئية، بعد أن صادقت حماس عليها، تباطأ نتنياهو في الدعوة إلى جلسة «كابينت» لبحث الموضوع، وليس من المؤكّد أن يصدر رد إسرائيلي واضح وحاسم في الموضوع. ولكن يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي أميَل حاليا إلى عدم قبول المقترح، وإلى طرح المزيد من العراقيل لضمان مواصلة الحرب. ويذهب الكثيرون في إسرائيل إلى أن استراتيجية نتنياهو الوحيدة هي استمرار الحرب، أو على الأقل «حالة الحرب»، وكتب إيهود براك رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، أن إنهاء الحرب سيأتي فقط بعد إنهاء حكم نتنياهو.
صحيح أن «الميل الطبيعي» لنتنياهو هو مواصلة الحرب، لكنّه يتعرّض لضغوط من الوزن الثقيل من عائلات المحتجزين الإسرائيليين، ومن الشارع الإسرائيلي، الذي يدعم مطلب تحرير المحتجزين، وإنهاء الحرب فورا. وبالنسبة للصفقة الجزئية، فهي تحظى بدعم من الجيش والمؤسسة الأمنية عموما، ومن عدد من الوزراء والمسؤولين المحيطين بنتنياهو، ومنهم رئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنيغبي، ما يضع وزنا مقابلا لرفض وزراء اليمين المتطرف للصفقة، وما يضع نتنياهو أمام أكثر من خيار.
خيارات نتنياهو الخمسة
كما في مرّات سابقة فإن القرار سيكون كما يحسم نتنياهو، ومهما كان قراره فهو سيحظى بأغلبية في الكابينت، وأمامه الآن خمسة خيارات بالنسبة لمقترح الصفقة الجديدة: الأول، أن يرفضها قطعيا ويصر على صفقة شاملة وفق الشروط الإسرائيلية، التي أعلنها مرات عديدة في الشهر الحالي (نزع سلاح حماس، تحرير المحتجزين جميعا، غزة منزوعة السلاح، سيطرة أمنية إسرائيلية مطلقة، إدارة مدنية ليست من حماس ولا من السلطة)؛ الثاني، أن يوافق على البدء بمفاوضات حولها ويحاول الحصول على المزيد من «المكاسب» خلالها، مع الإعلان أن إسرائيل ستعود إلى الحرب إذا لم تُقبل في المفاوضات اللاحقة شروط إسرائيل لإنهاء الحرب؛ ثالثا، المماطلة وعدم اتخاذ قرار واختراع التبريرات والحجج الداعمة لعدم اتخاذ موقف حاليا؛ رابعا، الإعلان أن إسرائيل ماضية في تنفيذ خطّة الاحتلال المباشر الكامل لغزة، وأن لا جدوى من صفقات أو مفاوضات مع حركة حماس، التي «يجب القضاء عليها لا مفاوضتها». خامسا، تبنّي الموقف الأمريكي حال صدوره. وفي هذه الحالة سيكون هناك تفاهم مسبق بين واشنطن وتل أبيب حول طبيعة وفحوى الرد الأمريكي على المقترح المصري – القطري.
«عربات جدعون ب»
أطلق الجيش الإسرائيلي على المرحلة المقبلة لحرب الإبادة في غزة اسم «عربات جدعون ب»، على اعتبار أنها استمرار للعملية السابقة. وحتى بعد قرار الكابينت بالشروع بالعملية الهادفة إلى احتلال مباشر لمدينة غزة أوّلا، وبعدها لبقية مناطق القطاع، فإن قيادة الجيش الإسرائيلي لا تزال غير راضية عن فرض هذا الخيار عليها، وهي تخشى من الفشل ومن التورّط في مشاكل محسوبة وغير محسوبة. وهذه من المرّات النادرة، التي تفرض فيها الحكومة على الجيش القيام بعملية عسكرية واسعة، وهو غير راض عنها، وما يزيد من تحفّظ الجيش من العملية أنّها مفصّلة وفق مصالح ومطامع نتنياهو، وقد تهزّ من مكانة العسكر: فإن فشلت سيتهم نتنياهو الجيش بالإخفاق لأنّه دخل المعركة مترددا ومتثاقلا، وإن هي نجحت فهو سيتباهى بأنه فرضها على الجيش، وأن المكاسب تعود له بشكل حصري، وهو لو أصغى إلى رئيس الأركان إيال زامير لما تحققت الإنجازات.
كما تخشى قيادة الجيش الإسرائيلي من عدم استجابة قوات الاحتياط لدعوات التجنيد التي بدأت بإرسالها، وذلك أولا، بسبب التعب والإعياء بعد مئات الأيام من الخدمة العسكرية؛ وثانيا، عدم الاقتناع بجدوى العملية العسكرية الجديدة، فغالبية الجمهور الإسرائيلي تعارضها، ومعظم مجندي الاحتياط من هذه الأغلبية؛ وثالثا الاحتقان والغضب والشعور بالاستغباء لدى أوساط واسعة من إعفاء شباب اليهود «الحريديم» من الخدمة العسكرية وفرضها على بقية أفراد المجتمع؛ رابعا، «معاناة» جنود الاحتياط على المستوى الشخصي الاجتماعي والاقتصادي والعائلي والتعليمي، فالكثير منهم تضررت مصالحهم الاقتصادية وعلاقاتهم العائلية ومنهم من خسر أشهرا من التعليم الجامعي. صحيح هناك تعويضات لكنّها غالبا جزئية.
يظهر من التعليقات والتحليلات، التي ينشرها الإعلام الإسرائيلي، أن هناك تشكيكا في ما إذا كانت عملية «عربات جدعون ب» ستمضي إلى نهايتها. ولا يستبعد كبار المحللين العسكريين والسياسيين أنها مناورة إسرائيلية ـ أمريكية لابتزاز حركة حماس، وحملها على تقديم المزيد من التنازلات. ومن اللافت للانتباه، أن هذه العملية تحظى بحملة «علاقات عامة» غير مسبوقة، قبل أن تخرج فعليا إلى حيّز التنفيذ، فكل زيارة لنتنياهو لقيادة الجيش في منطقة الجنوب تحظى بتغطية واسعة، وكل اجتماع يعقده وزير الأمن يسرائيل كاتس يجري تضخيمه إعلاميا، باعتباره «خطوة حاسمة» في الطريق إلى الاجتياح. كما يردد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعض «مقولات الحرب» الداعمة للموقف الإسرائيلي، ما يوحي للرأي العام بأن الولايات المتحدة داعمة للعملية العسكرية الإسرائيلية الجديدة. كما أن الكثير من تفاصيل الخطة العسكرية تُنشر بسخاء في الإعلام الإسرائيلي بشكل يثير الشبهات حول المقصد والغاية من التبرع بمعلومات عن عملية عسكرية وشيكة.
مفاوضات تحت النار
استبقت «مصادر إسرائيلية» التطوّرات بشأن احتمال تجديد المفاوضات بالقول «المفاوضات ستكون تحت النار ـ الجيش سيتوقّف (عن القتال) فقط إذا تمت الصفقة وجرى التوقيع عليها». وجاء في رسائل الاستدعاء التي تلقاها جنود الاحتياط على «الواتساب»: «كما نعرف، فإن دينامية وفرص التغيير قائمة دائما، ولكن عندما تخرج مثل هذه الرسالة، وليس كشائعة، فإن الحديث هو عن مخطط حقيقي يخرج إلى حيز التنفيذ، ومن المهم أن تبدأوا بالاستعداد وتجهيز من حولكم». لقد جرى تسريب هذه النص لبث رسالة أن إسرائيل في طريقها لاحتلال شامل لغزة. في المقابل اهتم «المقربون» من رئيس الأركان الميجر جنرال إيال زامير، بنشر خبر يفيد بأنه عرض أمام وزير الأمن يسرائيل كاتس، خطة احتلال غزة، مع التأكيد أنه يرى فيها خطوة للدفع نحو «صفقة محتجزين»، وإن لم تأت الصفقة فسيجري توسيع العملية طبقا لتعليمات المستوى السياسي.
قبل حوالي الشهر، هرب نتنياهو من مفاوضات الدوحة عند الاقتراب من التوصّل إلى صفقة جزئية. وبدأ بعدها يلوّح بصفقة شاملة وكاملة، واضعا شروطا تعجيزية لتحقيقها. لذا يبدو أنه ماض في الخيار الحربي متوهما أنه قد يحقق «إنجازا» يمكّنه من الادعاء بأنه حقق النصر، وأن حماس خضعت لشروطه. حاليا، وبعد أن وافقت حماس على «شروط» الولايات المتحدة وإسرائيل، فإن موافقة واشنطن وتل أبيب على هذه الشروط ليست مضمونة. يبدو أن نتنياهو يريد أن تبدأ عملية احتلال غزة، مع إبقاء الباب مواربا لصفقة تمكّنه من ادعاء الانتصار. وباختصار من المرجّح أن تبقى استراتيجية مواصلة حرب الإبادة هي خيار سيد الجريمة الإسرائيلي.
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com