ب. إبراهيم طه: الكبسولة الرابعة والأربعون (44).. نصف المصيبة وصناعة الوهم

حين تقعد في بيت عزاء لساعات طويلة وعلى امتداد أربعة أيام متتالية ترى الكثير وتسمع الكثير من كلّ الفئات والشرائح المجتمعيّة. تسمع ما يرضيك، وهو قليل، وتسمع ما لا يرضيك، وهو كثير، ما يكفي لمئات الكبسولات.. في بيوت العزاء وفي حضرة الموت أكثر ما يُذكر هو القدر المحتوم وسطوته. كان أحد المشيخة يتحدّث بتلهّف عن أحقّيّة الموت وقد وأسهب وأطنب. فمال عليّ جاري وهمس في أذني: “المثل بقول يا أستاذ اللي خِلِق عِلِق”. فرددت عليه بمثل فلّاحيّ عتيق يوسّع الفكرة ويعمّقها أكثر يقول “اللي بحضر السوق بشتري وببيع”. لا بدّ من الشراء والبيع في السوق إمّا بصفة معجّلة وإمّا بصفة مؤجّلة. والحياة سوق وليست محميّة طبيعيّة. هي سوق متحرّكة مفتوحة تخضع لجدليّات الخير والشرّ وما ينشأ عنها من إحداثيّات وتقاطعات لا حصر لها. هذا هو التورّط بالوجود على نحو ما اتفق عليه الفلّاحون والوجوديّون على حدّ سواء. ويظلّ السؤال معلّقًا كيف نتعامل مع هذه “العلقة” وهذا “التورّط”؟!

“نُصّ مصيبة” هو نسق حضاريّ حاسم في هيكلة الوعي العربيّ العامّ. سمعته مرّات عديدات في بيت العزاء ما يدلّ بالقطع على عمق الأثر الذي يتركه هذا النسق على تفكيرنا وقراراتنا. و”نصف المصيبة” هو منطق براجماتيّ تفرزه المفاضلة بين السيّئ والأسوأ. السيّئ نصف مصيبة والأسوأ مصيبة كاملة. منطق “النصفيّة” هو جهاز دفاعيّ يكثر عند الشدائد والملمّات القاتلات لتخفيف وطأة الوجع. وأظنّ غيرَ جازم أنّ آنا فرويد قد انتبهت إليه وكتبت عنه بصفة أو بأخرى. والناس عمومًا يستعملون منطق “النصفيّة” في ثلاث حالات: (1) القبول والرضا بنصف المصيبة المجرّب منعًا لتكامل المصيبة ودرءًا لمصيبة أكبر. لأنّ المغامرة والمراهنة على غيبٍ أو مجهولٍ قد تأتي بمصيبة كاملة، تُضاعف المشكلة، فالتشبّث بالموجود هو شبكة أمان. (2) وحين تتكامل المصيبة تعظم الحاجة إلى تقاسمها مع الآخرين. التشارك في المصيبة هو نوع من التقاسم وفي التقاسم تعزية. هذا معنى قولهم “مصيبة الكلّ نصّ مصيبة”. (3) مقارنتها بمصيبة الآخرين. والمقارنة “تصغّر” المصيبة إلى النصف وتخفّف من حمولتها. هذا هو معنى قولهم “اللي بشوف مصيبة غيره بتهون عليه مصيبته”…

السؤال هل هذه الحالات الثلاث أجهزة دفاعيّة حقيقيّة أم هي افتراضيّة كاذبة تعزّز صناعة الوهم؟!

ولضيق المجال أكتفي بمثال واحد قاتل واحكموا بأنفسكم. جاء أبو كامل للتعزية. عزّى وجلس إلى جانبي. بدا الرجل مريضًا. فسألته عن صحّته. “كنّك شايفني بتحلفص كثير في القعدة عشان هيك بتسأل؟” فقلت: “بصراحة، نعم. شو القصّة؟” فشرح لي مشكلته مع البروستاتا واختتم الشرح بنبر حزين قانع: “والدوا بطّل يقطع”. فقلت له ما معناه أنا لست طبيبًا لكن عمليّة جراحيّة في مثل حالتك مضمونة على حدّ علمي. فقال إنه يخاف من العمليّات، “واللي بتعرفه أحسن من اللي ما بتعرفه يا أستاذ. إسا أنا بنصّ مصيبة. يمكن تفشل العمليّة ونصير بمصيبة ونصّ”. وحتى يقنعني أبو كامل أضاف حجّة لا أستطيع أن أجادل فيها لخّصها بجملة واحدة “المكتوب مكتوووب” هكذا قال ومدّ الواو ليقطع المعنى ويحسمه. على فكرة، أبو كامل فنّان بالمدّ والمطّ عندما يقتضي المعنى ذلك. فقلت له بنبرٍ لا يخلو من حدّة وتحدٍّ: “جرّب! يمكن العمليّة تنجح وتتريّح من المصيبة كلّها وما يظل منها لا نصّ ولا ربع”. فقال: “المكتوب ما منّو مهروب يا أستاااذ!” ومطّ كلمة أستاذ ليعاتبني على إلحاحي وجهلي بأصول الدين!

 

من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى