الدكتور محمود علي جبارين: التربية الخفية.. المفتاح السري لبناء شخصية الأبناء

التربية الخفية هي ذلك الخط غير المرئي الذي يشكل شخصية الطفل ويغرس قيمه ومبادئه. فهي ليست ما يُقال بالكلمات، بل ما يُرى ويُحاكى من سلوكيات الأهل والمربين من حوله. غالبًا ما يظن البعض أن الكلام والنصيحة وحدهما كافيان، لكن الواقع يؤكد أن السلوك العملي هو المعلم الأكبر والأقوى.
فالطفل يراقب كل حركة وتصرف، ويتعلم منها من يحظى بالاحترام حقًا ومن يستحق التجاهل.. على سبيل المثال، إذا شاهدك طفلك في المحافل تقف وترحب بشكل مهيب بشخص معروف بالقوة والبلطجة، بينما يدخل المتعلم أو الشيخ أو الإمام أو الناشط ويُستقبل بلامبالاة أو دون تقدير، فسوف يتعلم أن القوة والبلطجة تمنح الاحترام، بينما العلم والأخلاق لا يحظيان بالتقدير.

هذا المثال البسيط يغرس في ذهن الطفل تصورات خطيرة عن القيم، وقد يسعى لاحقًا لتحقيق هذا الاحترام المزعوم بالطرق الخاطئة، ويؤثر على بلورة هويته الاجتماعية وشخصيته المستقبلية التي يحب أن يعرفه الناس بها.
الصدق والأمانة، التعاون والمحبة، الانضباط والاحترام، جميعها قيم يتعلمها الطفل من خلال الممارسة اليومية للنماذج من حوله. كل غيبة، كل كذبة، كل تجاوز للآخرين تُخزَّن في ذاكرته وتترجم لاحقًا إلى سلوك.
على سبيل المثال، إذا شاهد الطفل أن والديه أو أحد أقاربه يكذبون أو يغتابون الآخرين بشكل متكرر، فلن يكون الكلام عن الصدق له تأثير كبير. أما إذا شاهد التعاون والمساعدة والمجاملة والاحترام المتبادل في الحياة اليومية، فسيكتسب هذه الصفات بشكل طبيعي.

كيف ستربي ابنك على الصدق وأنت تكذب أمامه بوسائل مختلفة، عبر الهاتف أو بالحديث المباشر؟ وأحيانًا تقع المصيبة عندما تطلب منه أن يكذب بالنيابة عنك، مثل أن تقول له: “قل أن أبي غير موجود بالبيت!”
لقد واجهت من خلال عملي الكثير من الأحداث التي تتفاقم بالاستناد على كذبة أو خدعة من الولد لوالده، لمجرد أنه يريد أن يستعطفه أو يلجأ لحيلة دفاعية ما ليتهرب من مسؤولية معينة. ثم يأتيك أحدهم مدعيًا أن ابنه لا يكذب وهو صادق، ويبني على ذلك موقفًا وربما مشكلة وربما معضلة.

الولد هنا هو الضحية، لأنه سيبني شخصيته وسلوكه على تزوير الأمور للحصول على الحقوق، وهي الطريقة الأسهل والأسرع، وقد جربها في صغره بل تربى عليها للأسف. فأنت من حيث لا تدري تربي ابنك على الخداع والتمرد، وأول ضحية ستكون أنت، لأنه سيجد حيلًا دفاعية ليكون عاطلًا عن العمل، وسيجد حيلًا تبرر له التدخين، وسيجد حيلًا تبرر له الفشل العلمي والاجتماعي وربما السلوكي. وبالتالي نقول: جيل صعب متمرد، ولا نعلم أن هذا الجيل نحن من رباه ونحن من أنتجه وبلوره بسلوكيات خاطئة وتصرفات متناقضة.
هناك ظاهره منتشرة في بعض المدارس والمؤسسات، وهي ان قسما من الطلاب يتعدون على ممتلكات المؤسسة: تكسير أبواب، طاولات، كراسي، تخريب الزرع، إلخ. وعندما يتم التوجه للأهل، ينكرون أن أبناءهم يقومون بمثل هذه الأعمال، ولو أُحضرت لهم الأدلة الدامغة لا يعترفون، ويعلّمون أولادهم على النصب والاحتيال والكذب، مما يؤدي إلى بلورة شخصية مستقبلية متمردة على المال العام، متمردة على حقوق إخوانه وأخواته، خارجة عن القانون الأخلاقي والديني.
إن احترام الوقت والانضباط، ومحبة القوانين واحترام المعلم، لا تُزرع بالكلام وحده، بل تُترجم إلى مواقف حية يراها الطفل يوميًا. وإذا شاهد الطالب استهانة الاهل بالتأخر المستمر عن المدرسة أو عدم الالتزام بالقوانين المدرسية أو تجاهل مواعيد الواجبات، فلن يتعلم الانضباط إلا جزئيًا، مهما حاولت توجيهه بالكلام.
ضرورة تعظيم القيم في نفوس الابناء: الذكاء الاصطناعي تفوق على المهارات البشرية الروتينية، لم يبقى لنا الا القيم المتمثلة بالشعور العميق الذي نتغلب به على الذكاء الاصطناعي. إذا ما تساوت المعرفة والبيانات وانكشفت للعلن والقى الذكاء الاصطناعي بكل ما عنده من معرفة وبيانات للعلن وللعالم بأسره. فان التنافس سيكون على القيم والعقيدة والعمق العاطفي البشري، الذي لا يملكه الذكاء الاصطناعي.

وهنا تأتي اهمية التربية على القيم، خاصة ان القيم الإسلامية هي الاقوى. وسيكون النصر حليفها، ما إذا وجدت شعبا مدركا لها مذوّتًا اياها.
إذًا صراعنا هو على القيم ونصرنا يتحقق بالقيم .. لم يعد التسارع المعرفي حكرا على أحد، او خطرا يهدد الشعوب، لان المعرفة خرجت عن الحواجز واصبحت متاحه بشكل غير قابل لسيطرة اي عنصر بشري عليه، وهي بتسارع جنوني نحو الانتشار، لأنه نهر متدفق وبحر هائج من المعرفة والبيانات. ما نحتاجه هو التمسك بالقيم للحفاظ على كياننا لان قيمنا هي اللوح الذي سوف ينجينا من الغرق. والقارب الذي سيقلّنا الى بر الامان.
باختصار، الطفل يتعلم أكثر مما يشاهد أكثر من ما يسمع. التربية الخفية هي بوابة بناء شخصية متوازنة، نزيهة، متعاطفة، ومسؤولة. كل سلوك نبيل يُقدَّم للطفل اليوم، سيصبح جزءًا من طباعه غدًا، وكل تصرف خاطئ سيترك أثرًا عميقًا في تكوينه. إن كنت تريد أن ينشأ أبناؤك على القيم الحقيقية، فابدأ بنفسك كنموذج حي لما تريد أن يروه ويقتدوا به.

من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى