د. رافع يحيى: المسوخ (قصّة قصيرة)

لسببٍ ما كانت الضيعة تفقد كلَّ يومٍ شخصًا من أبنائها. لم يكن غريقًا، ولا قتيلًا، ولا مسمومًا، ولا موتًا مفاجئًا، ولا حادث سير، بل كان غيابه/موته غريبًا. وكان الفقدان إمّا يُمسّد بصلاة غائب، أو صفقة نميمة، أو موجة إشاعات.
انتشرت شائعةٌ بأنّ هناك فيروسًا خبيثًا يضرب الضيعة، ففرح معظمهم وأحبّوا هذا الطارئ وعانقوه؛ لأنه ملأ وقت فراغهم الطويل. تلتها شائعةٌ أخرى مفادها أنّ ماء الضيعة ملوّث، فغرق الجميع في زجاجات المياه الغازية. وبعدها هبّت شائعةٌ تحكي عن مسحوقٍ غريبٍ انتشر في الهواء يكشف الحقيقة، ففاضت مشاريع التجميل في كل زقاق وزاوية، وأحسّ الجميع بالفرح الشديد لهذا “الإنجاز”.
وذات صباحٍ أفاق الجميع على نبأ مأساةٍ أخرى وفقدانٍ آخر طاف شوارع الضيعة وأزقّتها. لم يجرؤ أحدٌ منهم على الاستفسار: ماذا؟ ومتى؟ ولماذا؟
توالى الفقدان الغريب وتوالت الإشاعات! وبعد حادثتين أو ثلاث اعتاد الناس على هذا النمط من الفقدان، وصاروا يتشوّقون لحصول مأساةٍ أخرى ليتابعوا حلقاتها بمتعة، دون فحص الأسباب أو الدوافع.
بعد فترةٍ تكسّرت كلُّ الإشاعات المألوفة، ولم تعد تُمتّع أحدًا أو تشبع خياله. واحتار أهلُ الضيعة في سبب فقدانهم لِحسِّ التشويق، فقد طَفَت على جميع إشاعاتهم أطياف الغباء والسذاجة والملل.
وفي مقهى على حافة مساء، ثمل أحدُ ضيوف المقهى فصاح في الموجودين:
– أنا الآن الوحيد الصاحي بينكم! اسمعوني، هناك حالات فقدان كثيرة في الضيعة. هل سأل أحدكم: لماذا؟ ولماذا؟ ولماذا؟ وهل له اسم؟ يشبه الطاعون، بل أعنف منه! هل هي لعنة؟
ردّ عليه الحضور ساخرين:
– شاء الله وقدّر، ولا اعتراض على قضائه.
فصاح الرجل بصوتٍ يشبه أنين قطّ مجروح:
– لم يبقَ في الضيعة سوانا!
قاطعه أحدهم وهو يبرز منكبيه العريضين:
– حِلّ عنّا يا زَلَمي، ناقصنا نكد!
وجاء صوتٌ من أقصى القهوة:
– زوجتي ما زالت حية ترزق، وأظن أنها سافرت إلى جهة أهلها ولم تعد، هي ارتاحت وأنا ارتحت.
ردّ عليه صوت شاب:
– أنت أصلًا ما زلت حرًا غير متزوج!
ثمّ أكمل وهو يسكب النبيذ على شفتيه المنفوختين. ولم ينهِ ضجيجه إلا صوتٌ خافت لشيخٍ يجلس على عتبة عالية في المقهى، كان يردّد:
– وأنا أولادي لم يعودوا من المدرسة، يبدو أنّ المدير تبنّاهم…
فقهقه أحد الحاضرين وأجابه:
– أنت ما عندك أولاد في المدرسة!
لكن جوابه لم يصل للشيخ الذي غطّ في نومٍ عميق.
فجأةً رأى الجميع ظلًّا غريبًا يتراقص على زجاج النافذة. خافوا ممّا يتراءى لهم، وبدأت الأيادي تتحسّس الرقاب مذعورة. وفي ثوانٍ بهتوا حين وقعت أبصارهم على مشهد قطّ يتهادى على حافة النافذة الخارجية. فزمجروا، ونفخوا، وشتموا، وحملوا كراسيهم وخرجوا يركضون ويهرولون خلف القطّ المذعور ممّا أصابهم. بلعتهم لجّة العتمة الداكنة وغابوا فيها.
في الصباح كانت الضيعة صامتة حدّ الغياب، لم يُعلَن عن فقيد آخر. بل كان المارّة يشيرون من بعيد إلى بيوت الضيعة الصامتة بأصابعهم، ويهرولون مسرعين إلى مقاصدهم…
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com