د. علي خليل جبارين: “عناوين الصدق”

المفكر (Intellectual) ليس مجرد ناقل للمعرفة, بل هو ناقد منخرط في قضايا مجتمعه, ملتزم أخلاقيا ومسؤول معرفيًا. يتمثل دوره في تفكيك الخطابات السلطوية والسرديات السياسية, ويرفض التواطؤ مع السلطة حين تنحرف عن مسارها الأخلاقي. يسعى لفهم الواقع بكل تحدياته وتعقيداته, دون تبسيط ساذج أو انكفاء على الذات وهو ملتزم ضميريًا ومجتمعيا بتحقيق العدالة والدفاع عن الحقيقة, متجاوزا المصالح الضيقة, الانحيازات الحزبية والضغوطات السياسية. يصغي باحترام وأناة وتواضع, ويتحدث بحكمة وروية.
على المستويات المعرفية, والأخلاقية, والاجتماعية والسياسية يتقاسم كبار المفكرين عبر العصور قواسمَ مشتركةً تميزهم أفرادًا وجماعات, فقد سعوا إلى ترسيخ الوعي, ورفض الهيمنة والظلم, وصون الذاكرة الجماعية, والمشاركة في صياغة السياسات التربوية والثقافية. جمعوا بين النقد والالتزام بالفعل, وعملوا على تقليص الفجوة بين الفكر المتقدم وعامة الناس, مؤكدين العلاقة الوثيقة بين الحرية والمسؤولية, وموجهين العقل نحو الواقع. حرصوا على تقريب الحقيقة من عامة الناس, بعيدا عن التوجيهات السلطوية, وأعادوا للمعرفة مكانتها الأخلاقية. قدموا مبادئهم وقضاياهم الإنسانية على مصالحهم الشخصية الضيقة. وفي ظل الأزمات المستعصية, كانوا صوت من لا صوت له, وصوت الحق الذي يصدح في وجه المستبد, رافضين الظلم, والتهميش والاستحواذ.
المفكر ليس شعبويا ولا ديماغوجيا. إنه يجتهد بصبر من أجل إنتاج معرفي حقيقي, ولا يجري كالدمية خلف تكريمات زائفة, يمنحها من لا يعرف, لمن لا يستحق. منصات التواصل الاجتماعي, كغيرها من المنصات المتاحة, ليست وسيلة لجمع “الإعجابات” وعبارات الإطراء, بل يعتبرها فرصة لتعزيز الوعي ودعم الحق. المفكر لا ينحني أمام الأزمات, بل يقف صامدًا, قويا, مسلحا بالحقيقة التي أنتجها ذلك التشابك بين المعرفة العميقة بالأمور, والصبر على تحصيلها.
المفكرون أصحاب المبادئ الأخلاقية الثابتة هم مجازا “عناوين الصدق”, وما أحوجنا إليهم.
ولإغلاق دائرة هذه المداخلة, أنصح كل من يبحث عن مضامين, أدوات و مواقف تربوية غاية في الابداع والعمق لاعداد مفكري المستقبل أن يتأمل قول الله تعالى في الآية الكريمة: ( “وكيف تصبر على ما لم تُحط به خبرا (“, الكهف, 68. سيدنا الخضر عليه السلام، وهو عبد من عباد الله الصالحين، يخاطب النبي موسى, وهو من أولي العزم من الرسل عليهم السلام, بأسلوب يلخص أسمى معاني التربية الحوارية, تلك المعاني التي نفتقدها اليوم في سعينا لبناء المفكرين و”عناوين الصدق” في مجتمعاتنا. في هذا الحوار, تتجلى العلاقة العميقة بين المعرفة, الصبر والحكمة, وهو ما أترك للقارئ حرية التأمل والتدبر فيه, والإبحار في معانيه السامية. وفي هذا المقام, لا يسعني إلا أن ارفع التحية للاخوة أعضاء لجان الإصلاح المحلية, والمربين والمربيات في مؤسساتنا التعليمية المختلفة, فهم بحق عناوين للصدق نعتز بها, وتُجسد أعمالهم النبيلة جوهر ما يمثله المفكر الأصيل.
والله الموفق و المستعان
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com