د. نائلة تلس محاجنة: أنا وأنا… في حضرة الأفوكادو وفنجان نسكافيه!

بين أنا وأنا، يقف الحوار ليصوغ ملامح المعنى الذي لم يولد بعد؛ معنى يتأمل الوجود في صمته، ويستحضر القصص القابعة على أدراج النسيان كأنها تنتظر لحظة الإفاقة. استشعر ذاك الفنجان الذي اختلط فيه الحليب بالنسكافيه وتوّجته رشّة عسلٍ دافئة في شباط، كأنما كان سرًّا صغيرًا بيني وبيني. كانت الشمس يومها ساطعة كاستثناء، والفنجان يطيل النظر إلى أشجار الأفوكادو التي لا ترضى إلا أن تصون استدامة الأخضر، كأنها تعاهدت على التضامن مع خضرة عيني… وعيني.

بين أنا وأنا، أسمع ندائي الخفيّ يتردد في صمت العوالم، كأنّه رجعُ صدى لم يكتمل بعد. أحتضن نفسي كما تحتضن الشجرة غصنها المكسور أمام الريح، بلا سؤال عن وجهة، بلا توقّع للغد. أفرش أمامي الطرق التي سلكتني، وأقف عند أبوابي المرتجفة، دون أقفال، دون محاكم، دون اشتراط…دعيني خفيفة من أثقال المرايا، متطهّرة من صورٍ علّقها الآخرون على جدران وجهي، كما يغسل المطر وجوه الحجارة بعد العاصفة.

حين حاولتُ أن أحتضنني، ارتجفت أصابعي كأنها تتحسس طبقات من زمنٍ مطويّ في صدري. هناك ملامح باهتة لوجوه مرّت بي، وظلال تركت أثرها ثم ذابت في مسافة القلب، عرفتُ أن ثمة   وجوهًا عبرتني ولم تبقَ، وأنينًا صامتًا يحتضر على اطلال الزمان. رغبتُ أن أذوب في دفئي بصدقٍ كامل. كيف أصير مأمني وأنا ما زلتُ أختبر معنى الأمان في عيون ذاتي؟

أعترف بأنني خبأت عنّي مواسم كاملة من الربيع، وادّخرت دموعًا لم تُذرف، وكلماتٍ لم تُكتب، كما تُخبأ الجواهر في أعماق الصخور. كثيرًا ما عبرتني كالغريب العابر في زقاق العتمة، ولم أنظر إلى وجهي سوى حين كان الضوء يصرخ بين جدران الروح. أشتاق إلى الإصغاء لصدقي حين ينام العالم، وأتوق أن أنام في حضن ذاتي كما ينام الطائر في عشه، متيقنة أنّ الرحلة مهما التفتت دروبها، لن تفصلني عنّي، بل تعيدني إلى نفسي كما تعيد الأم ابنها من بعيد.

أستشعر ذاك الفنجان الدافئ بين يديّ، لا كمشروبٍ، بل كحجرٍ أملس دافئ خبّأته الأرض تحت رماد الشتاء؛ حرارته تتسلّل إلى راحتيّ كما يتسرّب الضوء من شقوق جدار قديم، وأشعر بأن خضرة العتمة في عينيّ بدأت تُزهر، لا بالشمس، بل بما تبقّى من طين الأحلام اليابسة. كل رشفة منه، كأنها نَفَسٌ نجا من غبار العادة،
وكل دفءٍ فيه، يشبه لُقيا لم تكن مرتقبة، لكنها جاءت لتذكّرني أن الحياة تنبت أحيانًا من الشقوق، لا من البساتين.

يا أنا… اجلسي معي في حضرة هذا الهدوء، دعينا نغوص في صمت يملأه الإلهام، حيث الكلمات تتحوّل إلى ضوء، والضوء إلى نبض، والنفس إلى طائر يطير في فضاء الروح. في هذا الصمت، أراني أمامي، بلا حاجز، بلا مسافة، كأننا لوحة واحدة تُرسم على قماش الخضرة؛ كل ظلّ، وكل شعاع شمس، ينساب بيننا، يذوب في لون العيون والقلوب.

أودّ أن أقول كل شيء، أن أفرغ ما في صدري، لكننا نعرف أنّ الصمت أبلغ من الكلام، وأن كل رغبة للاحتواء والانصهار موجودة في كليّ وكلي. أنا وأنا نتنفس معًا، ونتمدد في مساحة لا تعرف الحدود، حيث الحواجز تتلاشى، وتصبح المسافة بيننا مجرد وهم. كل خضرة حولنا، من أوراق الأفوكادو إلى خيوط الشمس، تتحد معنا، تصير امتدادًا لروحينا، وكأن الطبيعة نفسها تصلي معنا، وتبارك لحظتنا، وتعلّمنا أنّ الوحدة الحقيقية ليست انفصالًا، بل انسجامٌ كامل مع الذات، ومع العالم، ومع كل ما يحيط بنا.

وبين سراديب الأغصان، في يومٍ شباطيّ دافئ، بينما تهيّأتُ لاحتضان ذاتي، أنا وأنا  نتبادل حديثًا لا يسمعه سوانا، وفنجان النسكافيه بيننا يتصاعد منه بخارٌ يشبه تنهيدة قلبٍ وجد ملاذه. كنتُ ممتنّة لتلك “الأنا” التي أعدّت لي الفنجان بحبٍ هادئ؛ استشعرتْ حاجتي بصمت، كما تعرف الأرض متى تسقي جذورها — كنتُ في حاجة إلى دفء، إلى أمانٍ بسيط يشبهني، يحتويني دون أسئلة. رشّة العسل لم تكن نكهةً فحسب، بل لمسة حنان من ذاتي إلى ذاتي كأنها تذكّرني بأنني ما زلتُ أعرف كيف أعتني بي.
أشجار الأفوكادو أمامنا، شامخة وخضراء، كأنها تمارس طقوس الإصغاء للصمت، تحفظ سرّ اللقاء ولا تبوح.
وفجأة، ومن عمق الحقول، صهل الحصان الأبيض — دون أن يُرى، دون أن يُقاطع — صهيله امتزج باللحظة، كأنه نَفَسُ الأرض حين تمرّ بها الروح، أو علامةٌ سرّية على أننا لسنا وحدنا. تسلّل صوته بين الأغصان وأوراق الأفوكادو، لامس رِقّة الحنوّ دون أن يلمس، وأحاطنا دون جسد، دون ظل، كأنه يمشي في المسافة الدقيقة بيني… وبيني. لم يكن صهيلًا فقط، بل صلاةً خفيّة مرّت على القلب، ثم توارت، كما يفعل الوحي حين يكتفي بأن يُشير… ويمضي.

بين أنا وأنا، يمتد السجال كظلّ يفتّش عن ضوئه. أُصغي إلى ندائي الخفيّ، أمدّ يدي إليّ كما لو كنتُ الغريب والمخلِّص في آن، وأبوح بما خبّأته المواسم من أسرار. وفي غمرة هذا البوح، يتسرّب إليّ وجهك، أيها الغائب في مرافق فضائي، والحاضر على عتبات قلبي. أما آن لك أن تخرج من صمتك، أن تتجسّد بين يديّ بدل أن تبقى طيفًا في ارتعاش الشعاع؟ أراك في انعكاس الفنجان، في صهيل الحصان الأبيض، في ريشة الألوان المعلّقة على الجدران، في خضرة الأفوكادو التي تتشبّث بالحياة، وفي تراب الأرض الصامدة… لكنك لا تجلس أمامي. يا أنت… أيها البعيد القريب، كيف أحتملك غيابًا يضاعف حضوري، وحضورًا يضاعف غيابي؟

وحين ارتشفت آخر رشفة، أيقنت لحظة الوداع، التي انتزعتني مني لأعود وأتنفس مع نفسي ببطء، كأنّي أودع قلبي من عروقي. أغمض عيني لأستلهم كل خضرة، وأشعة الشمس، وصهيل الحصان الأبيض، وكل رشفة من الفنجان، ونبضة صامتة في جوارحي، بشهيق عميق يملأ صدري حنينًا يخترق المكان. أستشعر الغياب كحضرة ثانية بين ثنايا النوافذ؛ أودع الفنجان وأودع نفسي، ولا أدري… هل سيعود اللقاء أم أن الزمن سيقف بيني وبيني؟ وهل يستمر امتداد الصمت الذي احتضننا، والروح التي تحدّت المسافة؟ أبتسم لنفسي، وأدرك أنّ كل وداع هو وعد بلقاء آخر، في صمت أعمق، وفي ضوء أوسع، حيث لا حواجز، ولا قيود، ولا كلمات، فقط أنا… وأنا!

من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى