د. علي خليل جبارين: الذكاء الاصطناعي.. بين الفرص والتحديات!

على مدار الثلاثة قرون الأخيرة, شهد العالم تحولات تاريخية كبرى عبر سلسلة من الثورات, بدءًا من الثورة الفرنسية التي رسّخت مفاهيم “الحرية” و”المواطنة”, مرورًا بالثورة الصناعية التي غيّرت ملامح الإنتاج والعمل, وصولًا إلى الثورة الرقمية التي أعادت تشكيل الحياة المعاصرة عبر تقنيات الحوسبة والإنترنت والذكاء الاصطناعي. هذه الثورات لم تكن مجرد موجات عابرة, بل لحظات فارقة استفادت منها شعوب سبّاقة, بينما عجزت أخرى عن تحويلها إلى أدوات نهوض حقيقي.
الفرق الجوهري بين من استفاد ومن فشل لا يكمن في الموارد فحسب, بل في سرعة الاستجابة, ومرونة المؤسسات, ووجود بنية فكرية وتعليمية تؤمن بالعلم وتُعزز من الإبداع, إلى جانب الإرادة السياسية والرؤية المستقبلية. ففي حين انطلقت دول مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة لتتصدر مشهد الابتكار, ظلت شعوب أخرى -خاصة في العالم العربي- عالقة في دوامة التبعية والتردد, بفعل غياب مشروع نهضوي حقيقي, ضعف البنى التحتية وغياب الإرادة السياسية.
في قلب الثورة الرقمية الراهنة, يتربّع الذكاء الاصطناعي(AI) كأكثر الظواهر تأثيرًا على مستقبل البشرية. ويُعرّف الذكاء الاصطناعي بأنه فرع من علوم الحاسوب يُعنى بتطوير أنظمة قادرة على محاكاة القدرات البشرية كالتحليل, التعلّم، اتخاذ القرار و التفاعل. هذا المجال الذي يشكل اليوم العمود الفقري للثورة التقنية, يرتكز على الخوارزميات, التي تعود جذورها إلى العالم المسلم محمد بن موسى الخوارزمي, الذي وضع الأسس المنهجية للتفكير الحسابي, حتى سُمّيت هذه الخوارزميات باسمه, مما يجعله أحد العلماء المؤسسين لهذا المجال.
للذكاء الاصطناعي جوانب إيجابية كثيرة, إذ أحدث نقلة نوعية في عدة قطاعات، منها التعليم من خلال تصميم إصدارات تعلم ذكية تراعي الفروق الفردية, والصحة عبر تحسين الخدمات الطبية والرعاية الصحية, إلى جانب زيادة الإنتاجية, ورفع جودة الخدمات الحكومية, ودعم مجالات مثل القانون, الأعمال, التمويل, النقل, التجارة الإلكترونية, الصناعة, الزراعة, الإعلام, الأمن السيبراني وغيرها. في المقابل, لا يخلو هذا التقدم من تحديات ومخاطر, من أبرزها: انتهاك الخصوصية, فقدان الوظائف بسببالاعتماد الكلي على الآلات الذكية, سوء الاستخدام, تهديد الهوية البشرية, غياب الأطر والضوابط القانونية والأخلاقية, تفشي الغش الأكاديمي, وتعميق الفجوة الرقمية بين الدول الغنية والفقيرة.
بل إن خطر الذكاء الاصطناعي قد يتجاوز الأبعاد التقنية ليُصبح تهديدًا وجوديًا, كما حذّر عدد من العلماء والمفكرين العالميين, أمثال ستيفن هوكينغ, إيلون ماسك, بيل غيتس, ونيك بوستروم. وبناء على تصريحاتهم, فان تحذيراتهم تنبع من خشية أن يتطوّر الذكاء الاصطناعي إلى حدٍّ يتجاوز قدرة البشر على السيطرة, خاصة في حال غابت الأطر الأخلاقية والتشريعية المنظمة, مما قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات تؤثر في مصير البشرية جمعاء. لذلك, يدعون إلى تبنّي تشريعات صارمة, وتنمية وعي جمعي يُعزز التعامل الواعي والمسؤول مع هذه التقنية. لكن, من منظور نقدي, لا بد من التساؤل: هل جاءت هذه التحذيرات فعلًا من منطلق إنساني حريص على سلامة البشرية وازدهارها؟ أم أنها تندرج تحت ما يُعرف بـ “التضليل المتعمد” (Disinformation)؟ أي بدلًا من السعي نحو التمكين ومواكبة التقدم, يُبالغ البعض في تهويل المخاطر, فيصاب المجتمع بحالة شلل فكري تمنعه من التطور والمبادرة. وإلا كيف يمكن تفسير تناقضاتهم؟ فمقابل كل ملياردير في مجال هذه التقنية هناك مئات الآلاف من الفقراء. وكيف يبرّر هؤلاء دعمهم لحروب وصناعات تسهم في إنتاج أسلحة دمار شامل؟ هذه الأسئلة وغيرها تُلقي بظلال من الشك على مصداقية تحذيراتهم المتشائمة, التي تصور الذكاء الاصطناعي كجيش من الروبوتات الخارقة التي قد تفني البشرية!
في المقابل، هناك من اختار أن يعيش في واقع تحكمه“المعلومات الخاطئة” (Misinformation) أو“أنصاف الحقائق” (Half-truths), دون أن يسعى للبحث أو التحقق, ليجد نفسه مجرد مستهلك سلبي, ، عاجز عن إدراك حجم المخاطر المرتبطة بالتخلّف عن ركب التطور. وبين طرفَي التهويل والاستخفاف, يبرز طرف ثالث, اختار أن يتعامل مع الذكاء الاصطناعي بعقلانية ووعي, فبادر بالبحث والاجتهاد لتسخيره لخدمة البلاد, ونجح في أن يكون في طليعة الركب, مسهمًا في تجسير الفجوة بدلًا من تعميقها.
وفي هذا السياق, يبرز التعليم كمفتاح أساسي للنجاة والتقدّم. فلم يَعُد دور المعلّم يقتصر على نقل المعرفة, بل ينبغي أن يتحوّل إلى مُيسّر للتفكير النقدي, ومُصمّم لتجارب تعليمية تُنمّي مهارات المستقبل مثل الإبداع, التعاون, وحل المشكلات. وتُبرز تجارب دول مثل فنلندا,سنغافورة, الصين, إستونيا, وكوريا الجنوبية أنالاستثمار في الذكاء الاصطناعي ضمن رؤية تعليمية مرنة, يمكن أن يُحدث نهضة حقيقية, شرط أن يُقترن ذلك بتدريب المعلّمين, تحديث المناهج, ضمان عدالة الوصول إلى التكنولوجيا وانشاء بنية تحتية رقمية قوية.
في ظل اتساع الفجوة بين من يملكون القوة التقنية ومن لا يملكونها, تتعاظم مسؤولية الإنسان في توجيه الأدوات المتاحة نحو الخير. فقد جعل الله الإنسان “خليفة في الأرض”, كما جاء في قوله تعالى: “إني جاعل في الأرض خليفة”. وهذا الاستخلاف يُمثّل تكليفًا يُحمّله مسؤوليات عظيمة في اعمار الأرض بالحق، وتسخير العلم والتقنية لتحقيق العدل والأمن للجميع، بعيدًا عن الهيمنة, الظلم, الاستبداد, توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء وسفك الدماء.
وفي الختام, فإن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد فرصة تكنولوجية, بل اختبار حقيقي لإنسانية الإنسان, أوما تبقى منها, في سبيل ترميم الإنسانية وبناء الوعي لمواجهة من صمم على تسخير هذه التقنية لجني الأرباح غير المبررة, الاستحواذ و الهيمنة. ويبقى الأمل معقودًا علىوعي الأجيال القادمة, وقدرتها على تجاوز العثرات التاريخية, وصياغة مستقبل أكثر عدلاً وازدهارًا.
والله الموفق والمستعان
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com