د. نائلة تلّس محاجنة: بين الجوع كنداء إلى التجويع كإلغاء.. قراءة فلسفية في النقص كشرط للمعنى، والتجويع كطمس للإنسانية

ليس الجوع ما يقرع المعدة فحسب، بل ما ينهض من أعماق الروح حين يصمت العالم، وتُغلَق النوافذ، ويغدو النقص ملامح وجهٍ نُضطر أن نحمله. إنه الظلّ الذي يطاردنا لا حين نجوع، بل حين نُمنَع من الجوع، حتى يُصبح الخبز مرادفًا للولاء، والصمت تذكرة عبور. ثمة جوعٌ يُنبت القصيدة كغصنٍ في شقّ صخرة، وجوعٌ يُنتزع من الجسد كما يُنتزع المعنى من الحنجرة. وثمة لحظة فاصلة، حدّ السكين، حين يتحوّل النقص من نداءٍ إنسانيٍ شفيف، إلى مشروع هندسةٍ للخراب: من فراغٍ فطريٍ يُربّي الحلم، إلى قيدٍ مصقولٍ بأدوات السيطرة. في تلك المسافة الرهيفة، بين الجوع كحالةٍ وجودية، والتجويع كصنعةٍ سلطوية، ومن بين الفراغات المنحوتة بالقصد، تنبثق هذه الكلمات، لا كإجابة، بل كشَقّ في الجدار، كصوتٍ خافتٍ يقاوم النسيان بالصدى، وُلد من رحم النقص، ومن شوق اللغة إلى أن تُبقي أثرها.
نداء الكائن نحو المطلق: الجوع ليس وجعًا في الأحشاء فحسب، بل رجعُ صدى غامض لفراغٍ أعمق من الجسد، كأنّ في دواخلنا جرسًا خافتًا لا يكفّ عن القرع، صوتٌ قديم لا نعرف من أين جاء، لكنه يتردّد فينا منذ لحظة الولادة، أو ربما قبلها. هو ارتجافة خفيّة، تنهض كلّما سكن الخارج، كأنّه صدى الخلق الأول حين لم يكن شيء، سوى الحاجة إلى أن يكون.
الجوع ليس سؤالًا عن الخبز، بل عن المعنى. هو نداء لا يُسمَع، بل يُحَسّ، يشبه رعشة الطفل حين لا يجد حضنًا، أو ارتجاف اليد حين تبحث عن يدٍ تُمسكها ولا تأتي. إنه الظلّ الذي يتمدّد فينا كلّما اقتربنا من أنفسنا، والجدار الذي نرتطم به كلما حاولنا الادّعاء بالاكتفاء. كأنه الحارس الأمين على هشاشتنا، يذكّرنا بأننا لسنا آلهة، بأن الكائن لا يُبنى من لحمٍ فقط، بل من قلقٍ، ومن توق، ومن فراغ لا يملؤه إلا الغياب نفسه.
وحين نقرأ الجوع خارج أحشائه، نفهم أنه ليس نقيضًا للشبع، بل نداء الكائن إلى المطلق، صرخة اللا مكتمل نحو ما لا يُسمّى.
هو أوّل اعتراف بأن الإنسان لا يرضى بحدوده، بل يتطلّع إلى الانفلات من الزمن، إلى المعنى الكامن وراء الخبز، إلى الآخر الذي لا يُرى، إلى ما بعد الضرورة، ما بعد اللحظة، ما بعد الجسد.
ومن رحم هذا النداء، يولد السؤال. فالجوع، إذ يتجاوز المعدة، يتحوّل إلى عينٍ ثالثة ترى ما لا يُقال، وإلى مرآة نحدّق فيها لا لنعرف ما ينقصنا من الطعام، بل ما نفتقده من أنفسنا. في الجوع، يبدأ الجسد بالتفكير. يصبح كل وجع تأمّلًا، وكل رغبة سؤالًا،
وكل فراغ نافذة. يتداخل اللحم بالفكرة، والحاجة بالفلسفة، فلا يعود الجسد مجرد وعاء بيولوجي، بل جغرافيا للمعرفة،
تُرسم عليها خرائط الافتقار، وخرائط المعنى. الجائع ليس فقط من فقد الطعام، بل من أدرك أن شيئًا ما في داخله ناقص، غير مكتمل، وخرج يبحث عنه كما يبحث التائه عن اسمه في كتبٍ لم تُكتب بعد.
الجوع، حين يُصغى إليه، نكشف فيه وجوهنا العارية، قبل أن نرتدي أقنعة اللغة واللياقة. نراه في عيون الفقراء الذين ينتظرون أكثر من الخبز، وفي وجوه الحكماء الذين علموا أن المعنى لا يُولد من الوفرة، وفي عيون العشّاق الذين يجوعون لاختزال المسافة. الجوع، إذن، ليس حالة نقص، بل طريقة وجود. بلغة تُنطق من الجسد، لكنها لا تسكنه.
* التجويع: حين يُصادَر النداء، ويُعاد تشكيل الكائن
لكن الجوع، حين يُنتزع من داخله، من رحم وجوديته الأولى، ويُعاد ضخه من الخارج كأداةٍ ممنهجة، لا يعود صرخة حاجة، بل سوطًا يُشهَر باسم البقاء. يتحوّل إلى هندسة قهرٍ متقنة، إلى مشروع محوٍ بطيء، يبدأ من الجسد ولا يتوقف عنده. في التجويع، لا يعود النقصُ انعكاسًا طبيعيًا للإنسان، بل يصبح فعلًا عدائيًا يُمارَس عليه. هو انحدار من الارتجاف الفطري نحو القصدية العدوانية، من الافتقار الصادق إلى المنع المحسوب بدقّة. هناك، على عتبة الرغيف، تتجلى السلطة في أقسى وجوهها: لا حين تعطي، بل حين تعرف كيف لا تعطي. حين تحاصرك لا بالجدران، بل بالجوع. حين تُبقِيك حيًّا بالكاد، تمامًا كما تُبقي النار تحت الرماد: حاضرة، خاضعة، بلا لهب.
التجويع ليس حرمانًا من الخبز، بل إعادة صياغة للكائن. تفكيكه قطعةً قطعة، تقليصه إلى فمٍ يطلب، لا فكرٍ يسأل. إفراغه من الكبرياء، من الحلم، من القدرة على الرفض. من يُجوِّع لا يكتفي بحرمان الجسد، بل يستهدف الصوت: أن يصمت. والكرامة: أن تنحني. والهوية: أن تُنسى. يريدك أن تذوب في كسرة الخبز، أن تتماهى مع المائدة، لا مع ما كنت تسعى إليه. أن لا تُعرَف إلا بوصفك: “من ينتظر وجبة”، لا ككائن كان يكتب، ويفكّر، ويحتج، ويحب. التجويع، بهذا المعنى، ليس بيولوجيًا، بل سياسيّ بامتياز. فهو لا يصيب المعدة، بل يثقب المعنى. ولا يطلب موتك، بل يُريدك حيًّا… ناقصًا، طائعًا، مفرَّغًا.
التجويع لا يُبقيك جائعًا فحسب، بل يُعيد تشكيل علاقتك بكل ما هو أعلى من البقاء.. إنه يُطفئ الحلم كما تُطفئ الريح شمعةً في عتمة القبو، ويُخرسك لا لأنك بلا صوت، بل لأنك تُدرَّب على الصمت… بالتجويع. فأكثر ما يخشاه من يُجوّعك، ليس جسدك المتعب، بل ذاكرتك اليقظة، وحنينك العميق إلى ما يتجاوز الخبز: إلى القصيدة، إلى الاعتراض، إلى الاعتراف بالوجع. في التجويع، لا يُطلب منك أن تموت، بل أن تنسى من كنت، أن تُطفئ الجزء الذي يعرف، ويتوق، ويحتجّ. أن تُمحى رغبتك في السؤال، وتُبدَّل بولاء هشّ، يُشترى بالرغيف. إنه لا ينتزع لحمك فقط، بل يمحوك من اللغة. يمحوك من الكتب، من الأغاني، من المحابر. يريدك أن تُعاد إلى الصفر، أن تُعرّف بكلمة: جائع، ولا شيء بعدها. فالتجويع، في جوهره، لا يستهدف معدتك،
بل يعيد برمجة وعيك، ليصبح الخبز سقف الحلم، والصمت شرط البقاء. وهكذا، لا يُخرس فمك فقط، بل تُعاد صياغتك في اللغة ككائنٍ مؤجل، تُسجَّل لا تحت “إنسان”، بل تحت إحسان الصمت.”
فالمفارقة الوجودية، الجوع كحرية، والتجويع كقيد -ثمة هاوية خفيّة بين الجوع والتجويع، رغم الجذر المشترك في اللغة. هاوية لا تُرى بالعين، لكنها تُحَسّ بالنفس: في الأولى، تنحدر إلى ذاتك، وفي الثانية، تُنتزع منها عنوة. في الجوع، أنت من يختار أن يفتّش في صمت أحشائه عن معنى، وفي التجويع، يُفرض عليك أن تنحني للضرورة، أن تغدو ظلًا يبحث عن فتاتٍ لا عن سؤال ..الجوع قد يورث القصيدة، يُوقظ الثورة، يزرع الحنين، فهو نقصٌ يُشعل الفكرة.
أما التجويع، فلا يخلّف إلا السكون الإجباري، أو الصرخة المذبوحة في الحلق، صرخة لا تصل، لأنها تُقايَض برغيف. في الجوع، تسأل: من أنا؟ وماذا أحتاج؟ وفي التجويع، تُسأل: لمن ولاؤك؟ وكم صمتك؟ وأين انكسارك؟
ومن الاشتقاق إلى الأخلاق: حين تفضح اللغة القصد؛ في الاشتقاق العربي، “جاعَ” فعل لازم، ينبع من الداخل بلا مُوجّه، أما “جوّع” فهو فعل متعدٍ، يحمل في بنيته أثر يدٍ خارجية تمتدّ لتنقصك عمدًا. هكذا تصير اللغة مرآة الأخلاق، وتكشف لنا أن النحو ليس بريئًا: فهو يفضح علاقة السلطة بالفعل الجوع، تجربة ذاتية، تنبثق منك وإليك؛ ولكن، حين يشتدّ التجويع، تتوهّج اللغة في داخله، لا لتصفه، بل لتخلقه من جديد: لا بطنًا يطلب، بل فمًا ينطق، واسماً يستعيد وجوده. هناك، تحت فعل التجويع، يتحوّل الجوع إلى مقاومة، لا لأنه يشتهي الخبز، بل لأنه يُعيد للغة حقّها في أن تُعيد للإنسانية إنسانيتها.
ان الجوع كنداء والتجويع كإلغاء يتسابق العالم فيه على صناعة القوّة، يُمحى البسيط: أن الجوع ليس عيبًا، بل إنسانٌ ينادي نفسه. وأن التجويع ليس قَدَرًا، بل قرارٌ مسموم، يُكتَب بيدٍ تُدينها الأخلاق قبل القوانين. دعونا لا نترك الكلمات تنفلت من معانيها..
دعونا نعيد للجوع مكانته الأولى: تأملٌ يكشف هشاشتنا، ويصوغ حكمتنا. ونعيد للتجويع فضيحته الكبرى: فعلٌ لا يُمارَس إلا لإلغاء النداء، لطمس المعنى، لحشر الكائن في فمٍ مفتوح وصمتٍ طويل. فالجوع قد يصنع حكيمًا، يُوقظ القصيدة في حنجرة الصمت، ويزرع شرارة المعنى في قلب الناقص، أما التجويع، فلا يُميت الكائن، بل يعلّقه بين لقمة وصوت، بين حياة ناقصة، كمن ينتظر استعادة نفسه، ورغبةٍ لا تزال تبحث عن اكتمالها.
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com