د. علي خليل جبارين: القائمة المشتركة.. بين الشعار و الواقع!!

أكتب هذه الكلمات وأنا مدرك ألا جدوى من الكتابة في عالم غاب فيه الصبر على القراءة.
ورغم ذلك, لا بد من أن نكتب, كي لا نفقد البوصلة وسط بعثرة مقلقة للأوراق. أكتب وأنا مدرك أن صورة ثعلب ماكر يطارد دجاجة الجيران قد تحصد كل الإعجاب، بينما صورة شبل نُصِب له فخّ الغدر لا تَلقى سوى الخذلان. أكتب في ظل حربٍ مأساوية, ومشاهد تفوق في قسوتها كل وصف. ومع ذلك, أكتب وأناقش قضايا مجتمعي, وأبدأ بالسؤال القديم الجديد: ما هو مستقبل القائمة المشتركة؟ هل ستبعث من جديد، أم أن تجربة عام 2020 كانت استثناءً غير قابل للتكرار؟


للإجابة عن هذا السؤال, لا بد من تعريف موجز بمفهوم “القائمة المشتركة”. فقد تأسست عام 2015 وبلغت ذروتها السياسية عام 2020, حين حصلت على 15 مقعدًا في انتخابات الكنيست.  وقد تشكّلت  لتحقيق أهداف محددة, في طليعتها حماية المجتمع العربي من سياسات التمييز الممنهج و المنهجي   الذي مارسته, وما زالت تمارسه, الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ضد المواطنين العرب, في مختلف المجالات: السياسية, الاقتصادية, التعليمية والمجتمعية. كما سعت إلى الحفاظ على الهوية والوجود والتراث في ظل تصاعد نفوذ اليمين المتطرّف, ورفض كافة أشكال التهميش, الإقصاء والتمييز البنيوي. ومن ضمن أهدافها أيضا ترميم ثقة المواطن العربي بقياداته, ومنع التشظي والانقسام الداخلي, إلى جانب مكافحة آفة العنف التي أنهكت المجتمع العربي, والعمل على  دعم البلديات والمجالس العربية, خاصة الضعيفة منها, ومساعدتها في طرح قضاياها الملحّة أمام الحكم المركزي.  وشملت أولوياتها كذلك السعي لتوفير فرص عمل أفضل, ضمان المسكن للأزواج الشابة والعمل على ترسيخ أسس الحياة الكريمة للمواطن العربي في البلاد.

 

ومع ذلك, يبقى السؤال الملح: كيف لطرح نظري واضح وشامل كهذا ألا يُفضي إلى بناء قائمة سياسية قوية ومستدامة؟ ولماذا يبدو هذا الطرح هشا عند اختباره على ارض الواقع؟  تشير مراجعة موضوعية للتجربة إلى أن الإشكالية لم تكن في الفكرة من حيث المبدأ, بل في غياب القدرة على تشخيص العوائق الجوهرية التي حالت دون ترجمتها إلى واقع ملموس. ومن أبرز هذه العوائق:

1- التوتر الدائم بين الرؤية الأيديولوجية والنهج البراغماتي في العمل البرلماني, ولا سيما فيما يتعلق بخدمة المواطن.

2- أزمة الثقة العميقة لدى المواطن العربي تجاه الأطر السياسية, وما ينتج عنها من تخوين, اتهامات متبادلة و تراشق دائم بالمسؤولية.

3- تحوّل المفاوضات إلى صراعات على ترتيب المقاعد والمواقع, بدلًا من النقاش حول الرؤى السياسية والمضامين الكبرى.

4- تدخل الخلافات الشخصية والمناكفات الإعلامية — في كثير من الأحيان بطريقة غير أخلاقية — في الحوارات التي يُفترض أن تكون شفافة, مسؤولة وبعيدة عن الشخصنة.

5- تقديم المصالح الحزبية أو الشخصية على حساب المصلحة العامة المشتركة, حيث يطغى “الانا الحزبي” على المصلحة العليا للمجتمع

6- الطرح غير المهني للقضايا, المتأثر بالولاءات الفئوية, ما يعكس ضعفًا بنيويًا في القدرة على تشخيص المشكلات بموضوعية.

7- غياب بيئة حوارية قائمة على الاحترام المتبادل,  وتكرار الوقوع في دوامة التشكيك والتخوين.

8- افتقار المشروع إلى ميثاق تنظيمي واضح يُنظّم آليات النقاش, ويوجّه الاختلافات نحو حلول عملية قابلة للتطبيق.

في ضوء هذه العوامل, يصبح واضحًا أن التحدي لا يكمن فقط في بلورة الأفكار, بل في توفير البيئة السياسية والتنظيمية والأخلاقية الكفيلة بتحويلها إلى مشروع جماعي متماسك ومستدام.

 

والأغرب من كل ما سبق, أن الإرادة الشعبية لدى أفراد المجتمع العربي تتقدم على إرادة القوى السياسية المتحاورة بشأن إعادة تشكيل القائمة المشتركة. فالمواطن العادي يعبربقوة    عن رغبته الصادقة في قيام إطار سياسي موحّد,مدركًا أن الانقسام لا يؤدي إلا إلى تمثيل برلماني ضعيف, وإلى تهميش الموقع السياسي للمجتمع العربي على الخارطة السياسية في البلاد.  هذا الواقع يُسهم في تعميق فجوة الثقة بين المواطنين وقياداتهم السياسية, ويصب, من حيث النتيجة, في مصلحة أجندات اليمين المتطرف الساعي إلى تقليص أي تأثير سياسي فعلي للفلسطينيين داخل مؤسسات الدولة.  إن استمرار هذا التشرذم لا يكشف فقط عن أزمة في الإرادة السياسية الحقيقية لدى الأحزاب العربية لتشكيل قائمة موحدة, بل يسلّط الضوء أيضًا على خلل في تحديد الأولويات, في وقت يتطلّع فيه الجمهور إلى تمثيل جاد ومسؤول لقضاياه, لا إلى صراعات تخدم مصالح حزبية ضيّقة.  

 

رغم الصعوبات فان الخروج من هذه الأزمة ليس بالمستحيل, بل يحتاج إلى قرارات سياسية شجاعة تتحرر من الحسابات الضيقة, وإلى وثيقة سياسية جامعة تحترم الاختلافات الأيديولوجية, مع التركيز الكامل على المصالح العليا للمجتمع العربي.  إن ما نحتاجه فعلاً هو حوار داخلي بناء يقوده أشخاص يمتلكون المعرفة العميقةبالقضايا المطروحة, البصيرة السياسية, الحكمة, والقدرة على رؤية الصورة الكاملة. حوار يشارك فيه ممثلو الاطرالسياسية, المجتمعية, الأكاديمية, والشبابية بهدف صياغة مسار واضح يقودنا إلى بر الأمان في ظل الأزمات المتراكمة.  نحتاج إلى حوار يقوم على الاحترام الحقيقي,الثقة و الشفافية في كل مراحل التفاوض, لمنع تسلل الشكوك والشائعات التي كثيرًا ما كانت سببًا رئيسيًا في إفشال المبادرات السابقة.

 

ختامًا، أتوجه بالتحية لأعضاء الكنيست العرب مثمنا الجهد الكبير الذي يبذلونه في ظل ظروف صعبة واستثنائية. ومع ذلك, أؤكد أن المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل لا يزال يطمح إلى قائمة موحدة قوية تسعى الى تحقيق الأهداف العليا للمجتمع ككل. وفي هذا السياق, تستوقفني الآية الكريمة: “وقفوهم إنهم مسؤولون”, التي تذكّر القائمين على هذا المشروع بحجم الأمانة التي يحملونها وبضرورة العمل بصدق ومسؤولية كاملة.  لا تزال الفرصة قائمة لبناء القائمة المشتركة, لتوحيد الصوت العربي وتحويله إلى قوة سياسية مؤثرة وذات وزن. أما إذا ضاعت هذه الفرصة, فقد نشهد تمثيلًا هشًا وتأثيرًا أضعف, إلى جانب مجتمع أكثر غضبًا وعزوفًا عن ممارسة دوره في العملية الانتخابية والسياسية على حد سواء.

والله الموفق والمستعان

 

من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى