ب. إبراهيم طه: الكبسولة الحادية والخمسون (51.. لغة تسيير الأعمال وتيسيرها!

الالتفاف على المعنى أو التشويش عليه أو تأجيله أو السكوت عنه هي من الضرورات المصيريّة أحيانًا وخصوصًا عند إدارة الأزمات المعقّدة والمركّبة وقت الحروب وفي اتفاقيّات السلام والمعاهدات الكبرى.
لكنّها عندنا هي نسق سلوكيّ ونمط حياة. هي ثقافة تقريبيّة فيها الحسن أخو الحسين والزايد أخو الناقص. وهي في المحصّلة النهائيّة عقليّة تملّص من كلّ ما هو دقيق واضح محدّد مستقيم صريح ملزم.
دعوته لنتحدّث في شغل عندي في البيت. الرجل صاحب صنعة معروف. غلّاية القهوة عامرة. قبل الدخول في موضوع الشغل نفسه سألته، من باب العادة اللازمة، عن الحال والمال والعيال. لكنّ الرجل أسهب في أجوبته وتشعّب. استمرّت هذه الديباجة نصف ساعة تقريبًا. لم تتوقّف إلا حين قطعتْ حديثَنا دعوةٌ بالمايكريفون، تطوف به سيّارة في كلّ حارات البلد وأزقّتها: “إلى أهالي قريتنا الكرام، باسم الحاج فلان الفلاني أبو فلان وإخوانه يدعونكم لتناول طعام العشاء على مائدة والد العريس.. الدعوة عامّة رجالًا ونساء. وأهلًا وسهلًا بكم”.
صمتنا قليلا لنتيّقن من هُويّة الداعي، ثمّ استغللتها فرصة للانتقال إلى الحديث في تفاصيل الشغل. سألته عن سعر المتر الواحد والتسعيرة الكليّة النهائيّة.. صفن قليلًا ثمّ بدأ بترانيم التباكي وتراتيل التذمّر والتشكّي: “والله الشغل صعب يا أستاذ. والبضاعة اليوم غالية. الأسعار نار. والضريبة بتحاسبنا على النُّصّ…”.
سايرته حتى منتصف الطريق ودعوت الله تعالى أن يمنّ عليه بالصحّة والعافية، وقلت: “بس ما قلتلّي بالآخر قدّيش بدّك”.. بعد جهدٍ مُجهِدٍ أعطاني تسعيرة. اتّفقنا. أعطيته مقدّمًا ثلث المبلغ. كانت الشمس قد غربت، فقال وهو يتحرّف للخروج: “إن شاء الله جمعتين ثلاثة بالكثير يا أستاذ باجي أركّب.. إن ظلّينا طيبين”.
اتّفقنا على بركة الله، أو هكذا ظننت. غادر الرجل.. انتظرت ثلاثة أسابيع بكاملها. لكنّه لم يأتِ. عذرته لأنّ الغائب عذره معه. انتظرت أسبوعًا آخر. ولمّا لم يأتِ اتّصلت به. لفّ الرجل وبرم حول ذيله عشر دقائق وهو يحدّثني عن ضغط الشغل الذي لا ينتهي. وطلب التأجيل لأسبوعين إضافيّين.. وأنا طلبت أن يعيد لي المبلغ!
تفكّرت في كلّ هذا الذي حدث فوجدت أنّ لغة التواصل، بيني وبين هذا الرجل، كانت وحدها تكفي لتُنذر بنوعٍ من الصدام. وهي في وجهتها العامّة التفافيّة تشوّش على المعنى في أربعة أنماط:
(1) الكلام الفارغ. وهو الخالي من معنى واضح محدّد. هو كلام عفويّ يُطلق على عواهنه من باب العادة والتراكم. هذه الديباجة الطويلة، عن الحال والمال والعيال، لا قيمة لها في ذاتها..
ينبغي اختصارها في خمس دقائق.. وذاك الذي يدعو كلّ أهل البلد برجالها ونسائها لطعام العشاء كلامه فارغٌ أيضًا، لأنّه ببساطة لا يقصد ما يدعو إليه. وفوق هذا كلّه، هو لا يستطيع أن يطعمهم ويسقيهم كلّهم إن هم لبّوا دعوته، وهو يعلم ذلك. إذًا لماذا يقول ما لا يقصده ولا يقدر عليه؟!
(2) الكلام المقلوب. وهو الكلام الذي يعني أمرًا مخالفًا. كلامٌ ظاهره شيءٌ وباطنه شيءٌ آخر. عندما تذمّر الرجل فهو لم يكن يقصد ما قال، بقدر ما كان يحاول أن يبرّر السعر العالي الذي سيطلبه..
هو هجوم استباقيّ يُقصد به تعطيل القدرة على المساومة وتحصيل المبلغ الذي يريد.. هو تذمّر لضرورات البسط!
(3) الكلام الكاذب. وهو الكلام الذي يعلم صاحبه مسبقًا أنّه لا يُلزمه. وهو لذلك يتحدّث بلغة التقريب والمشيئة..
اللهمّ لا اعتراض على مشيئتك. لكنْ – يا رجل – كن صادقًا، وقل لي مسبقًا إنّ الأمر سيستغرق شهرين كاملين، ثمّ علّق تنفيذه بمشيئة الله. وقولك “إن ظلّينا طيبين” كلام بدون معنى أيضًا. وهل تتوقّع منّي أن أحاسبك على تأخّرك إن أنت متّ مثلًا؟!
(4) الكلام الالتفافيّ. هو لفّ ودوران. التفّ الرجل وبرم وحام حول المعنى بحجج كاذبة عشر دقائق بكاملها.. ظلّ يلفّ ويدور حتى لا ينطق بكلمة اعتذار على كذبه. فضّل أن يكذب على أن يعتذر. معنى هذا أنه عالج الكذب بكذب إضافيّ من نوع جديد.. ثقافة الاعتذار والاعتراف بالذنب في مجتمع فحوليّ هي بضاعة كاسدة.
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com