د. علي خليل جبارين: بين الظاهر و الخفي.. عرب الداخل الى اين؟

في لحظة تتكشف فيها الحقائق وتسقط الأقنعة, يجد المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل نفسه أمام مفترق طرق مصيري, تتجلى فيه أزماته المختلفة بأبعادها الداخلية والخارجية. إذ يتقاطع التأثير الخارجي, المتمثل في سياسات التهميش والإقصاء, مع عوامل داخلية أسهمت في إنتاج حالة من التمزق الاجتماعي, العزلة والاغتراب. وتعد مظاهر التفكك الداخلي, مثل تفشي العنف, واستفحال ثقافة الاستهلاك, وتراجع المنظومة القيمية لصالح المظاهر الشكلية, من أبرز العوائق التي تحول دون تطوره, وتعمق لدى أفراده مشاعر فقدان الأمان والانتماء.

ومع ذلك, وعلى امتداد سنوات طويلة, أظهر هذا المجتمع وعيا ملفتا وإنسانية راسخة, تجلت في تضامنه المستمر مع قضايا المظلومين والمنكوبين حول العالم, وفي مقاومته للعوامل الخارجية التي سعت إلى تهميشه وإقصائه. غير أنه, في المقابل, أخفق في ترتيب أولوياته الداخلية و فشل في مواجهة أزماته الذاتية, ما أسهم في تعميق حالة الإنهاك والتفكك الداخلي التي يعاني منها.

تهدف هذه الرسالة القصيرة إلى تقديم قراءة تحليلية نقدية لواقع المجتمع العربي في الداخل, في ظل التطورات الراهنة. وفي هذا السياق, لا بد من الإشادة بالجهود الأكاديمية والدراسات البحثية القيمة التي تناولت واقعهذا المجتمع على مدار عقود, والتي تستحق التقدير والمراجعة المستمرة للاستفادة من خلاصاتها. وتشير معظم هذه الدراسات إلى وجود فجوة واضحة بين مستوى الوعي بالقضايا الخارجية من جهة, وغياب الفعل الجماعي المنظم لمواجهة التحديات الداخلية من جهة أخرى, وهي التحديات التي ساهمت في إضعاف هذا المجتمع, إعاقة تطوره وتعميق شعوره بالعجز وفقدان الأمان.

هذه الفجوة أربكت المجتمع وأضعفت مناعته و قدرته على مواجهة الازمات. فبالرغم من إدراك أفراد هذا المجتمع لطبيعة التحديات الخارجية, إلا أن هذا الوعي لم يترجم إلى خطوات فعالة في ترتيب الأولويات الداخلية أو التعامل معها بجدية. وتبقى المسافة شاسعة بين الأهداف المعلنة, مثل تحقيق الأمن والعدالة ومكافحة الجريمة, وبين الممارسات اليومية التي لا تعكس غالبا التزاما حقيقيا بهذه القضايا.

من أبرز مظاهر الفجوة بين الوعي والسلوك في المجتمع العربي تنامي ثقافة الاستهلاك والتفاخر, حتى بين الأسر محدودة الدخل. وقد أدى هذا النمط إلى تراكم الديون, وتفكك الروابط الأسرية و ازدياد الضغوط النفسية, ليصبح ظاهرة مقلقة تتجاوز الانحراف الفردي, وتتحول إلى سلوك جماعي تغذيه حالة من الصمت المجتمعي والتصالح مع العنف, الفساد والبلطجة. ولم يعد مستغربا أن يتساءل البعض, بمرارة, إن كانت أولويات المجتمع قد اختزلت في: “أكل, عرس, لبس, سيارة”, حيث تحولت مظاهر الرفاهية إلى غطاء يخفي الهشاشة الداخلية لهذا المجتمع, ويعكس عجزا جماعيا عن بلورة مشروع جمعي ناضج يلبي الاحتياجات الحقيقية, ويعزز الانتماء والمسؤولية.

يلاحظ في هذا السياق غياب واضح لدور المفكرين, المثقفين والأكاديميين في العمل الميداني, إذ يقتصر حضورهم غالبا على إنتاج معرفي نخبوي يبقى معزولا عن الواقع الاجتماعي, ولا يترك أثرا ملموسا في تشكيل الرأي العام. وتعزز هذه الفجوة البنيوية حالة التردد لدى فئة الشباب في تحمل مسؤولياتهم المجتمعية, فرغم امتلاكهم طاقات وقدرات واعدة, يتجنب كثير منهم الانخراط الجاد في مسار التغيير المنشود, بينما ينزلق البعض إلى دوائر العنف التي تضعف النسيج الاجتماعي لهذا المجتمع وتفاقم أزماته. كذلك,أُقصيت المرأة بدرجة كبيرة عن أدوار محورية في معالجة هذه الفجوة, واقتصرت مشاركتها على أطر تقليدية محددة.
ومع ذلك, لا يمكن تجاهل بروز بعض المبادرات الشبابيةو المجتمعية المحلية التي تعبر عن وعي ناضج وإرادة صادقة للتغيير, إلى جانب جمعيات نسائية نشطة تدمج بين العمل المجتمعي وقيم العدالة, الانتماء, الكرامة، والمشاركةالفعلية .

وتظهر هذه الفجوة أيضا في الاعتداء غير المبرر على الحيز والممتلكات العامة، التي تعد بمثابة الرئة التي تتنفس منها قرى ومدن هذا المجتمع. والمفارقة أن الفرد, في الوقت الذي يحرص فيه بشدة على ممتلكاته الخاصة, يُبدي لا مبالاة تجاه الملك العام الذي يخدم الجميع. تعكس هذه الازدواجية خللا عميقا في منظومة الوعي والانتماء, وتسهم في تآكل الملك العام وإضعاف روح المسؤولية الجماعية.

يكمن الحل في تعزيز الوعي بأهمية هذه القضايا من خلال إحياء القيم الأصيلة التي شكلت عبر الأجيال دعائم المجتمع العربي, مثل القناعة, التراحم, الاحترام المتبادل, والانتماء وتحمل المسؤولية. فالتغيير لا يُفرض من الخارج,بل ينبع من الداخل, عبر قرار فردي وجماعي يواجه ثقافة العجز واللامبالاة. وتنطلق هذه العملية من المؤسسات التربوية والاجتماعية الأساسية, بدءا بالأسرة والمدرسة, مرورا بالمسجد, وانتهاء بمنصات السياسة والاقتصاد.

تجاوز الأزمة الراهنة لا يمر إلا عبر تحمل المسؤولية الفردية بوصفها الخطوة الأولى نحو مشروع جماعي يتجاوز الولاءات الضيقة, ويطمح إلى بناء مجتمع أكثر عدالة وأمنا وكرامة. ولا يمكن استعادة الثقة ما لم يتحول الأفراد إلى شركاء حقيقيين في التغيير, لا مجرد متلقين أو منتظرين لحلول خارجية. وتعبر الآية الكريمة: “ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ عن هذا المعنى بوضوح وجلاء.

المجتمع العربي في الداخل اليوم بحاجة إلى مراجعة جريئة, تنقله من دائرة التنظير والإنكار إلى ساحة النقد البناء والممارسة الفعلية. فالتغيير الجاد يبدأ بخطاب ديني متزن يوازن بين الثوابت الدينية وتحولات الواقع, وبنظام تربوي يعزز التفكير النقدي, وتمكين حقيقي للمرأة المنتمية الى مجتمعها, إلى جانب دور فاعل للمربين والمثقفين والأكاديميين و المفكرين الحريصين على مستقبل مجتمعاتهم. الأزمة التي نعيشها ليست فقط تهميشا سياسيا أو اقتصاديا, بل أزمة وعي, وحلها يبدأ بثورة قيم تعيد للمجتمع مكانته, وتنقله من الهامش إلى مركز التأثير والفعل.

والله الموفق و المستعان

من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى