شوقية عروق منصور: غزة بين الرأس الطائر و”الحرامات” الملوّنة!
** لا نريد السؤال كم من الرؤوس طارت؟ وكم من الأشلاء جمعت أو ما زالت مبعثرة؟

أتساءل أحياناً: هل سيأتي اليوم الذي تستطيع فيه الأفلام الوثائقية والسينما الفلسطينية والعربية استغلال الصور والأفلام القادمة من قطاع غزة بسرعة عبر الفضائيات والتقارير الصحفية الكاشفة عن المآسي والقصص، التي خرجت من المعقول إلى حكايات اللامعقول؟!
هل سيأتي من يصنع أفلاماً تواجه المستقبل والأجيال القادمة وتضع صمت العالم العربي والغربي أمام بوابات العار والاتهام، مثلما نرى الاتهامات السياسية والحربية وتقريع الضمائر عبر الأفلام السينمائية الأفلام الوثائقية الغربية؟!
لا نعرف، ولكن الذي نعرفه أن الأرشيف الدموي في غزة قد تحول إلى خرائط من الصعب تخيل معرفة الحدود الجغرافية، التي أصبحت كتلاً من الركام الذي يدل على شهوة الانسان للتدمير.. وحين تستيقظ الخرائط تجد نفسها بين الوجوه التي غابت حاملة أحلامها وطموحاتها وتقاسيم وجوهها، التي ذابت في زمن البارود الذي يتقلب مزاجه حسب الأصابع التي تبعثه.. وغالباً ما يتحول إلى لعنات تضحك على حرق المئات تحت خيامهم أو في براري المجهول.
كتبت الصحفية “يافا أبو عكر”، عندما زارت مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة لكي تعد تقريراً عن عائلة تم مسحها بالكامل من السجل المدني، الأب والأم والأخوة والأخوات.. كلهم استشهدوا، سوى الناجي الوحيد وهو طفل عمره تسع سنوات.. الطفل الذي كان في حضن والده عند القصف. ولما انفجر الصاروخ واستشهد والده، واستيقظ الطفل لاحقًا وجد رأس والده مفصولاً، وأمه وأخوته أشلاءً مبعثرة حوله.
وتقول الصحفية: “منذ عام والطفل لا يتكلم مع أحد.. ولا يضحك ولا يبكي.. فقط ينظر إلى رأس محدثه، يحدق في رأسه”!.. أنتهى تقرير الصحفية .
بين الواقع والخيال، لم يعد الطفل يصدق كيف يطير الرأس؟ كيف ينفصل؟ أصبح تحديق الطفل رسالة، كأنه يقول للذي أمامه: حافظ على رأسك فمن السهل تطييره!
لا نريد السؤال كم من الرؤوس طارت؟ وكم من الأشلاء جمعت أو ما زالت مبعثرة؟ ولكن السؤال الذي يصرخ كيف يمكن لهذا الطفل أن يعيش مستقبلاً؟ كيف يمكن أن يغفر وينسى ويقف على قدميه لكي يكون رجلاً فعالاً في المجتمع؟
هناك فجوة واسعة بين أحلام الطفولة وطاولات المفاوضات ووجوه المسؤولين، الذين يقرأون أوراق الربح والخسارة.. فجوة بين الركض من مكان إلى مكان، ونزوح يترجم لغة القوة إلى واقع يصعد بالأرواح إلى حالات الذعر الدائم!
صورة الطفولة في غزة مكسوة بغبار الجثث وشهقات الجوع والتعب والخوف، والأمراض التي تعانق بقايا الاجسام المنهكة. فهل تخلع الثياب العسكرية غطرستها وعنجهيتها، وتتساءل: أليس طفل اليوم رجل الغد؟!
أما ميثاق الطفولة العالمي فهو عصفور الغرور، الذي يمد منقاره ويسرق الشعارات ليوزعها ابتسامات على جمعيات تشتهر بالنفاق والخداع.
قد يتحمل الكبار أجسامهم المتورمة بالخداع والخوف والموت البطيء، ولكن الأطفال – تلك القامات الصغيرة التي ركضت وهبطت في مناخ يقدم فواتير القصف والدم والاشلاء – هل ستبقى مصابة بداء الخوف والرعب والهروب والجوع والذعر إلى الأبد؟! بالطبع لا..!! للتاريخ أجنحة تأخذنا إلى الماضي، الذي يهمس لنا ويقول: احملوا المرايا فمرايا المستقبل لا تكذب!!
** الحرامات الملونة
تتراقص الحرامات الملونة بين الأيدي رقصة الموت الراكض والمخيف في تفاصيل الوانه.. الحرامات التي تحولت إلى لون واحد، والركض لعل الحياة تعود إلى المصاب.
نرى الحرامات الملونة وهي تركض بلهفة، فهناك في عمق الحرام الملون جثة أو بقايا أو نفساً ما زالت تصرخ حباً في الحياة، وبين الألوان والدماء النازفة علاقة عبثية تؤكد وجع الواقع.. الحرام صُنع للدفء، ولكن في غزة له وظيفة إخفاء المصاب بقذيفة أو في احتراق، أو لملمة بقايا جسد كان يضج بالحياة…
هناك حرمة للحياة، ولكن في غزة الموت والحياة سواء.. داخل الزمن الغزي لا يمكنك التأمل والتنفس بسهولة، لأن هناك صخرة على صدرك لا تستطيع ازاحتها.
أصبحت الحرامات الملونة في غزة علامة بارزة على قصف مجنون. وفي غياب الأجهزة والآليات الخاصة لحمل المصاب أو إخفاء الأشلاء، تكون الحرامات الملونة الوسيلة الوحيدة حيث يحملونها بسرعة، يهرولون بين الطرقات الترابية التي تحولت إلى شاهدة العيان على خطوات أصبح الركض فوقها القدرة الوحيدة على الخلاص.
الحرام الملون يغطي البقايا، بقايا انسان وجد نفسه داخل رقم سيتحول بعد ذلك الى قوائم النسيان.. لكن وجوه الذين يحملون الحرام لا يستطيعون تغطية القبور المفتوحة، والأيدي التي تمسك الحرام بقسوة التشبث تحدق في الفضاء تنتظر القصف القادم…!!
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com