ب. ابراهيم طه: الكبسولة الرابعة والخمسون (54).. ما كان ضرّه لو تأدّب.. قليلًا؟!

أدّيتُ واجب التعزية للصديق الدكتور محمّد هيبي ورهطه وقومه الكرام الغانمين. وفي بيت العزاء التقيت بأستاذيّ الجليلين خليل هاشول وسمير خوري. هكذا هي الأقدار تأتي دفقة واحدة بدون نُذُر أو تباشير! بعد غياب خمسين عامًا ألتقي بهما الوجه في الوجه والخاطر عند الخاطر والقلوب بعضها عند بعضها! سلّمنا وتعانقنا وتذاكرنا. فرحتُ بهما واحتفلت واحتفيت وانفعلت! عدت إلى أهل بيتي بخفقِ القلب أحدّثهم عن لُقيا هذين الأستاذين الجليلين بعد كلّ هذا العمر الطويل..
انتبه أهلُ البيت إلى رجّة صوتي وأنا أحدّثهم بحنجرةٍ قد ارتعشت أوتارُها هزّها الانفعال والحنين! سلامٌ لكما وسلامٌ عليكما في الحِلّ والمرتحل يا أستاذيّ العزيزين الطيّبين! بكما أشمخ وأفاخر! أباهي بكلّ هذا الجيل الأصيل من المربّين والأساتذة الذين نقلونا من مضارب الحجر والمَدَر إلى عصر العِمارات التي تنطح!
قبل أعوام قليلة طرق باب مكتبي في الجامعة طالبٌ شابٌّ جامحٌ نافر. كانت لحيته المنمّقة توحي بحرصه الشديد على أناقته. سألني: “إنتِ إبراهيم طه؟” هكذا بالضبط من الباب إلى الطاقة بدون مقدّمات ولا ألقاب ولا مُصاحِبات رسميّة تُوجبُها الأعرافُ والأصولُ والأخلاق.
هكذا سأل بنبر ناشف صقع. استغربت! ما حاجة هذا الشابّ المزركش إلى سؤالٍ كهذا وقد رأى كلّ تفاصيلي، اسمي ودرجتي الأكاديميّة وموقعي الوظيفيّ، مسجّلة بلغاتٍ ثلاث على نفس الباب الذي طرقه؟! على كلّ حال، سألني فأجبته على قدر السؤال وزدت: “نعم، أنا إبراهيم طه.. تفضّل!”.
ولمَ لا أجيبه فنحن في عصر لا وقت فيه للمجاملات الفارغة والمقدّمات والتذييلات الخاوية! وفوق ذلك كلّه، أنا لا أحبّ الألقاب ولا أطرب لسماعها أصلًا. عرّف الطالب بنفسه لكنّي لا أذكر من تفاصيله الآن شيئًا. تبادلنا بضع كلمات فهمت منها أنه جاء ليتعرّف إليّ مثلما قال. غادر الشابُّ الغرفة. وما كاد يخرج حتى ضبطتُ نفسي أتململ بانزعاج، بانزعاج شديد. هو ليس انزعاجًا بالضبط هو أكثر من ذلك وأكبر. هو استياءٌ! حتّى في الغرب ما زالوا يحافظون على الحدّ الأدنى من أعراف الحديث وأخلاقيّات الخطاب!
لا أعرف لماذا عدت إلى عهد الصبا حين كنّا نحرص أشدّ الحرص على ألّا تجمعنا الصدفة بأحد الأساتذة ونحن نلعب لاهين غافلين بين الأزقّة، نتسابق على بيادر البلد العامرة بخيراتها. مَن تحرّك في داخلي هذه المرّة وانزعج ليس الأستاذ الجامعيّ العصريّ المتنوّر بل ذاك الصبيّ الذي درج بين بيوت الطين والطوابين والسلاسل الحجريّة والأزقّة الترابيّة، ورعى عنزاتها الشاميّة البيضاء والحمراء، وطارد الدجاجات بحثًا عن بيضها المختبئ بين الأعشاب والمساكب في حارات كابول القديمة البكر.
من استاء وغضب وانتفض هو ذاك الصبيّ الذي علّموه أن يضع يده على قلبه وينحني حين يقدّم للضيف واجبه. ذاك الصبيّ الذي علّموه أنّ للكبير قدرًا لا يُمسّ، وأنّ للمعلّم مقامًا عاليًا لا يُخدش وأنّ تبجيله واجب أخلاقيّ في المقام الأوّل. شيءٌ جامح أخذ يصعد من هناك، صوتٌ قادم بقوّة من عمق تلك السنين ومدارج العمر، يعلو بإصرار إلى مقدّمة الوعي، صوتٌ يقول لي بأنّ ذاك الطالب الشابّ الذي اقتحم مكتبي دون إنذار سابق كان وقحًا غليظًا صفيقًا جلفًا لم يؤدّبه أبواه! ظلّ في داخلي صوتٌ لا يستكين وهو ويلحّ في السؤال: ما كان ضرّه لو تهذّب قليلًا فهو الشابّ الغِرّ وأنا الكهل الذي بدأ يشيخ، وهو الطالب وأنا الأستاذ، وهو الغريب يسأل عن غريب؟! ما كان ضرّه لو تأدّب.. قليلًا؟!
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com