د. جمال زحالقة: ماذا يفعل فانس في عراق المنشية؟!

تأتي زيارة نائب الرئيس الأمريكي، جي. دي. فانس، إلى إسرائيل في إطار الجهود الأمريكية المكثّفة لمنع انهيار “خطّة ترامب” في مرحلتها الأولى، وللشروع في التحضير للمرحلة الثانية من الخطة، التي يسود إجماع بأنّها بالغة التعقيد ومحفوفة بالمخاطر. وبعد وصوله إلى مطار اللد، سارع فانس لزيارة “مركز التنسيق المدني- العسكري”، الذي أقامته الولايات المتحدة في مدينة “كريات غات”، القريبة من غزة (والواقعة فوق أراضي عراق المنشية المهجّرة). وعقد فانس مؤتمرا صحافيا في المركز، وتوالت تصريحاته التي وضعت بعض النقاط على حروف الموقف الأمريكي، حيث أوضح: أولا، الولايات المتحدة لن تُدخل جنودها إلى غزة؛ ثانيا، نوعية القوات الدولية يجب أن تحظى بموافقة إسرائيل؛ ثالثا، الولايات المتحدة لم تعط حماس مهلة زمنية محددة للتخلي عن سلاحها؛ رابعا، إذا لم تتعاون حماس فسوف يُقضى عليها؛ خامسا، قضية إعادة الجثامين صعبة ومعقّدة ولن تحل بين ليلة وضحاها؛ وسادسا وليس أخيرا، الأمور تسير أفضل مما توقّعت.
لكن التصريح الأخطر لنائب الرئيس الأمريكي قيل بصيغة تحليل، أن تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار على الأرض معقّد، وتلاه تقييم بأن “الخرق المحدود” للاتفاق لا يعني انهياره، وشرح فانس: “حين ينتقل طرفان كانا في حرب طويلة إلى مرحلة الهدوء، فمن الطبيعي أن تحدث توترات. هذا لا يعني أن وقف إطلاق النار انتهى”. وأضاف موبّخا وسائل الإعلام: “لاحظت موقفا غريبا لدى الإعلام الأمريكي والغربي، وكأن عنده رغبة في فشل الهدنة، فكلما حدث حادث أمني، أو إطلاق نار، يسارعون للقول: هذا هي نهاية وقف إطلاق النار، انتهى الاتفاق”. وحذّر من أن مثل هذا الخطاب الإعلامي يضرّ بمساعي الاستقرار ويغذي التشكيك بما سماه فرص السلام.
لم يكن تصريحا “بريئا”، فالمقصود منه منح شرعية لاستمرار الاعتداءات الإسرائيلية “المحدودة” على قطاع غزة. وهذا ما يحدث اليوم، إذ يخرق الجيش الإسرائيلي الهدنة، ويطلق النار ويقتل ويدمر بشكل متقطّع ومتكرر، من دون تعليق أمريكي على ذلك، ما يعني الضوء الأخضر. فبعد مقتل جنديين إسرائيليين في منطقة رفح بنيران مقاتلين فلسطينيين (أشارت التقارير الإسرائيلية الأولية إلى أن قوات الاحتلال هي التي وصلت إليهم فكان الرد بإطلاق النار ـ لكن هذه التقارير تبخّرت لاحقا)، منحت الإدارة الأمريكية إذنا ليوم كامل من الردّ، نفّذت خلاله إسرائيل أكثر من مئة غارة واستشهد فيه 45 مواطنا غزّيا. القصد الفعلي وغير الصريح من كلام فانس هو أن الإدارة الأمريكية تتفهم وتقبل بلجوء إسرائيل إلى استخدام القوّة العسكرية بشكل محدود بين الفينة والأخرى، ويطلب نائب الرئيس الأمريكي من وسائل الإعلام العالمية أن تتفهم هي أيضا أن أمورا من هذا القبيل تحدث بعد وقف إطلاق النار. ويبدو أن مهمة فانس، في زيارته لإسرائيل، ليست الضغط للالتزام بالهدنة، بل لضمان ألا تؤدي الخروقات الإسرائيلية إلى انهيارها، أي ان تبقى “محدودة”، وهو يمنح إسرائيل ضوءا أخضر متقطّعا. وللتأكد من عدم تهاوي الهدنة. وقد شدّد فانس خلال زيارته لإسرائيل على ضرورة التنسيق مع الولايات المتحدة قبل القيام بعمليات عسكرية واسعة في غزة.
مطبّات
يتصرف ممثلو الإدارة الأمريكية وفق منطق “الحل الوحيد” للأزمة في غزّة هو خطّة ترامب، وهذا المنطق “سليم” من الناحية العملية، ومرجع أرجحيته الضعف العربي في المبادرة وطرح البديل، وقبل أي حديث عن مآلات الخطّة الأمريكية، يجب التأكيد على أنّها ليست قدرا محتوما، وأن الفعل السياسي يحمل على الدوام، وفي كل لحظة، أكثر من بديل. إنّ سياسة التذرّع بالعقلانية والتسليم بقلّة الحيلة والاسترخاء عليها، هي سياسة من قال عنهم المتنبي “يرى الجبناء أن العجز عقل وتلك خديعة الطبع اللئيم”. ومن يقرأ بقية أبيات أبي الطيب سيجد أنه يدعو إلى إدخال منطق الشجاعة وربطها بالحكمة حيث أمكن. هذه ليس دعوة لمغامرات غير محسوبة، بل للخروج العربي والفلسطيني من حالة القصور، والعمل بما هو ممكن ضمن المساحة الواسعة المتاحة البعيدة عن الانزلاق في مهاوي المغامرة.
للأسف، خطة ترامب هي الوحيدة المطروحة، وقد بدأ تطبيقها خطواتها الأولى ويجري التحضير لمراحلها التالية. وفي هذه الخطة مطبات كثيرة، تتطلب فعلا سياسيا عربيا قويا لمنع تحويل الخطة السيئة إلى مشاريع عملية أكثر سوءا، ولضمان عدم المس بالحقوق الفلسطينية المشروعة خلال تطبيقها. ومن هذه المطبّات: نزع سلاح حماس، القوة الدولية والدول المشاركة فيها، مجلس السلام المسؤول عن غزة، تركيبة وصلاحيات الإدارة التكنوقراطية الفلسطينية، الانسحاب الإسرائيلي، فتح المعابر، حفظ الأمن والنظام، إعادة الإعمار ومسألة التمويل، دخول المساعدات، وغير ذلك من القضايا الحاسمة والحساسة، التي سيكون لها تأثير كبير على مصير القضية الفلسطينية برمتها. في كل مسألة من هذه المسائل يمكن، على الأقل، إضعاف التأثير الإسرائيلي من جهة، وزيادة وزن الاستجابة للمصالح الفلسطينية من جهة أخرى.
مطالب
يعمل مصنع الشروط الإسرائيلية ساعات إضافية في إنتاج وإعادة إنتاج الإملاءات المسمّاة مطالب أمنية وسياسية. ومن هذه الشروط التي جرى تداولها في إسرائيل هذا الأسبوع: أولا، ألّا تكون قوات تركية وقطرية في القوة الدولية، وأن تكون مهمّـتها المركزية فرض نزع سلاح حماس؛ ثانيا، نزع سلاح حماس بلا تمييز بين سلاح هجومي وسلاح دفاعي؛ ثالثا، منع نشوء نموذج حزب الله في غزة؛ رابعا، تفاهم مع الولايات المتحدة حول “حرية العمل” الإسرائيلي في غزة؛ خامسا، التزام الولايات المتحدة بالفيتو ضد أي قرار يناقض مصلحة إسرائيل؛ سادسا، رفض رقابة الأمم المتحدة وفرض رقابة المنطقة الوسطى للجيش الأمريكي على تطبيق الاتفاق؛ سابعا، السلطة الأمنية العليا في غزة تبقى بيد إسرائيل؛ ثامنا، لا مكان لحماس وللسلطة الفلسطينية في إدارة غزة، تاسعا، حماية العصابات المسلحة التي أقامتها إسرائيل في القطاع؛ عاشرا، إبقاء شريط أمني حدودي تحت سيطرة إسرائيل، إضافة إلى تحكّم كامل بالبحر والجو، إضافة لذلك هناك شروط إسرائيلية كثيرة تزداد يوميا، ما يجعل إمكانية التوصل إلى تطبيق خطة ترامب أمرا شبه مستحيل ضمن المعطيات القائمة. ومن أهم النقاشات الدائرة في إسرائيل حاليا، هو ما العمل في حال فشل الاتفاق وعدم تحقيق إسرائيل غاياتها المعروفة. وقد برزت الدعوة للاستعداد لجولة جديدة من الحرب، لضمان “تجريد حماس من السلاح”، تمهيدا للإعلان عن النصر المطلق. السؤال، ما هو البديل العربي في حال إخفاق خطة ترامب؟ الجواب أن لا بديل حاليا، وأن هناك حاجة ملحة لتجهيز البديل وطرحه في الوقت المناسب.
الأوضاع في غاية التعقيد وتحتمل السير باتجاه عدة سيناريوهات، منها استمرار الوضع القائم لمدة طويلة، ومنها أيضا التقدم المحدود في خطة ترامب والتوقّف في محطة إدارة الأزمة، وهناك إمكانية ولو كانت مستبعدة لتنفيذ بنود الخطة وصولا إلى إعادة الإعمار، وثمة احتمال أن تتجدد الحرب، مع التنويه بأن مثل هذا القرار يمر في واشنطن، وقد تؤدي التطورات إلى فشل خطة ترامب في منتصف الطريق وطرح خطة جديدة. من المهم المتابعة الحثيثة لمسار تنفيذ خطة ترامب، وتقييم مآلاتها، وإذا تبين أنها فشلت، يجب عدم الانتظار حتى يدفع الشعب الفلسطيني ثمن هذا الفشل، ويلزم عندها طرح خطة عربية – فلسطينية بديلة، جرى تحضيرها سلفا.
عراق المنشية
أطلق نائب الرئيس الأمريكي، جي.دي. فانس تصريحاته، التي تحمل في طيّاتها استهتارا بالشعب الفلسطيني وبحقوقه المشروعة، من “مركز التنسيق المدني العسكري” في مدينة كريات غات الإسرائيلية. وتقع هذه المدينة فوق أرض قرية عراق المنشية المهجّرة، التي تبعد مسافة 25 كم بخط جوي عن مدينة غزة، وقسم من هذه المدينة مبني على بعض أراضي قريتي الفلوجة وقسطينة الفلسطينيتين. وخلال معارك النكبة، حاولت القوات الإسرائيلية احتلال القرية مرات عديدة، وفي كل مرة تصدى لها جنود مصريون ومتطوعون سودانيون ومقاومون فلسطينيون، وفي 28 ديسمبر 1948 شنت قوة من لواء الكسندروني “عملية التصفية” على البلدة فتصدى لها المدافعون وتمت تصفية القوة بالكامل وقُتل 87 جنديا إسرائيليا. وبعد أيام قليلة من التوقيع على وقف إطلاق النار يوم 24.2.1949، خرقت القوات الإسرائيلية شروطه وشنت هجوما فظيعا على القرية شمل القتل والتنكيل والاغتصاب والتدمير والتهجير، واحتلت البلدة وشرّدت أهلها.
ما أشبه اليوم بالأمس من حيث النزعة العدوانية الإجرامية الملازمة للصهيونية، ومن حيث عدم الالتزام باتفاقيات الهدنة. ولكن ما أشبهه أيضا بحضور إرادة الصمود والاستعداد للتضحية لدى الشعب الفلسطيني، وبتوفّر الاستعداد الشعبي العربي للدفاع عن شعب فلسطين.
ماذا يفعل فانس في عراق المنشية؟ لقد شاهدته يتحدث من فوق أرض عراق المنشية، وخلتني أسمع في الخلفية صرخات الضحايا وصيحات المقاومين.
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com