د. علي خليل جبارين: “الفيلة البيضاء” في بيوتنا..!

يعبر مصطلح “الفيلة البيضاء” عن ظاهرة مألوفة في كثير من الدول النامية, حيث تنفذ مشاريع عملاقة بتكاليف باهظة, لأجل المظاهر أكثر من جدوى الفائدة الاقتصادية الحقيقية. وكما كانت الفيلة البيضاء في ممالك آسيا القديمة, ولا سيما في سيام (تايلند حاليًا), رمزا للفخر الملكي وعبئا ماليا في الوقت نفسه, تتحول الكثير من هذه المشاريع إلى أعباء اقتصادية تثقل خزينة الدول التي تتبناها. وغالبا ما يتم اللجوء إلى مصادر تمويل وقروض خارجية, لا سيما من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي, دون دراسات واقعية تضمن فائدتها ومردودها الفعلي. وهكذا تُستنزف الموارد, تتراكم الديون, تتراجع الخدمات لتصبح التنمية عبئا جديدا بدل أن تكون وسيلة للنهوض . ويزداد الأمر خطورة حينما تصبح هذه الدول أكثر تبعية وتفقد الكثير من إرادتها السياسية, نتيجة تراكم الديون والاعتماد على التمويل الخارجي.
أما أصل المصطلح فيعود إلى العصور الملكية في سيام, حين كانت الفيلة البيضاء تعد كائنات مقدسة ترمز إلى البركة الإلهية والمكانة الرفيعة. غير أن هذا الشرف كان يحمل في طياته عبئا ثقيلا, إذ لم يكن يسمح باستخدام الفيل في العمل أو بيعه, فيما تنفق عليه أموال طائلة لرعايته. وقد لجأ بعض الملوك إلى تحويل هذه الرمزية إلى وسيلة للعقاب السياسي, فيمنحون فيلا أبيض لمن سخطوا عليه من النبلاء, فيبدو التكريم في ظاهره شرفا, لكنه في الحقيقة فخ اقتصادي يجر صاحبه إلى الفقر بسبب كلفة العناية به.
غير أن “الفيلة البيضاء” لا تقتصر على مشاريع الحكومات, بل نجدها أيضا في حياتنا اليومية, داخل بيوتنا واحيائنا. ففي المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل, نرى صورا مصغرة من هذه الظاهرة: مظاهر التفاخر في الأعراس, الإنفاق المفرط على السيارات, الهواتف الحديثة, البيوت الفخمة, الخ…… بما يفوق إمكانات الأسرة, والحرص على الصورة أمام الآخرين ولو على حساب الاستقرار المالي والعائلي. هذه النزعة الاستعراضية، التي تقدم أحيانا كرمز للنجاح والمكانة الاجتماعية, تتحول في الحقيقة إلى عبء نفسي واقتصادي, يولد التوتر والديون ويفكك العلاقات داخل البيت, ويفتح الباب أمام العنف والتفكك الأسري. ومن الجدير بالذكر هنا أننا لسنا ابدا ضد إقامة الأعراس أو الإنفاق المشروع ضمن الإمكانيات الاقتصادية المتاحة, ولكن المقصود هنا هو تجنب تحميل أنفسنا ما يفوق طاقاتَنا المالية و الاقتصادية.
إن إدخال “الفيلة البيضاء” إلى البيت — أي تحميل الأسرة ما لا تطيق لإرضاء المجتمع أو مجاراة التقاليد — يشبه تماما خطأ الدول حين تستثمر في مشاريع شكلية لا تخدم الناس. فكما تدفع الدولة ثمن القرارات غير المدروسة بتراجع التنمية, تدفع الأسر ثمن السلوك الاستعراضي بتآكل الثقة وتزايد الخلافات والعنف الناتج عن الإحباط والضغوط الاقتصادية.
الحل في الحالتين يبدأ من إعادة تعريف مفاهيم النجاح والتنمية والازدهار. فليست القيمة في حجم المشروع ولا في فخامة البيت, بل في أثرهما على حياة الناس وسعادتهم. التنمية الحقيقية, سواء على مستوى الدولة أو الأسرة, تقوم على التوازن والوعي والاستثمار في الإنسان لا في المظاهر. وحين ننتقل من منطق الاستعراض إلى منطق الكفاءة و القدرة, ومن تقليد الآخرين إلى الاعتماد على الذات ومن محاولة إرضاء الناس الى العمل بما يرضي الله تتحول “الفيلة البيضاء” من عبء يثقلنا ويقتلنا إلى درس نتعلم منه كيف نبني حياة أكثر وعيا وعدلا واستقرارا. وهنا تستوقفني الأية الكريمة: ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾.
لا حاجة إلى التبذير ولا ضرورة لتحميل النفس فوق طاقتها. فلا تدخلوا “الفيلة البيضاء” إلى بيوتكم فتقضوا حياتكم حسرة وندامة. أطردوا الفيلة البيضاء من فضاءاتكم, واجعلوا مساحات بيوتكم وساحاتكم أماكن لقاء لأفراد اسركم, ارحامكم وجيرانكم. اجعلوها لقاءات رحمة ومودة وتشاورا على الخير والبناء والعطاء.
والله الموفّق والمستعان
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com


