خليل حمد: زيتونيات: جولة في السوق!

 

كنا قد احتفلنا يوم الجمعة الماضي، أنا وأسرتي الصغيرة – زوجتي وبناتي – بقرب انتهاء موسم قطاف الزيتون، على طبخة مقلوبة شهية ولذيذة “من الآخر”، كانت قد أعدّتها زوجتي في البيت ليلة الخميس، وحملناها معنا صبيحة الجمعة من نابلس إلى كفل حارس.

ولم يكن انتظار وقت الظهيرة للاحتفال بها سهلًا، لأن روائح الخلطة السحرية التي ملأت كابينة السيارة طوال الطريق أسالت لعابنا وأثارت شهيتنا.

لكننا صبّرنا أنفسنا حتى حلول وقت الظهيرة، وهو الوقت الأمثل لتناول وجبة المقلوبة. وما إن عدت من صلاة الجمعة في الجامع الكبير – الذي لم أواجه فيه حوادث هذه المرة – حتى وجدت زوجتي وبناتي قد افترشن الأرض وأعددن العدّة للحظة الحاسمة، لحظة قلب المقلوبة والتلذذ بها.

وما إن وصلت المكان، وكان في ظل زيتونة، حتى أزلت الحرام الصوفي الأحمر الذي كانت زوجتي قد لفت به الطنجرة للحفاظ على دفئها، ثم قلبناها سويًا في طقوس احتفالية تليق بالمناسبة العظيمة والمباركة. وما إن رفعت الطنجرة حتى امتلأ الجو بروائح الدجاج والباذنجان والزهرة، التي بدت جميلة وشهية وهي تتكدّس فوق جبلٍ من الأرز، تنبعث منه رائحة بهارات المقلوبة النفّاذة.

ولم يطل الوقت حتى دارت الملاعق، وصرت شخصيًا ألتهم الأرز بطريقة شبه جنونية، فلا تلوموني! فمن منكم يستطيع مقاومة هكذا أكلة؟ خصوصًا حين تكون في الهواء الطلق، في البراري، وفي ظل زيتونة؟ تلك الأجواء التي تضفي نكهة وطعمًا شهيًا حتى على الخبز الحاف!

عملت بعدها يومين في تنظيف بعض الأشجار المتبقية، وهي قليلة الحمل، وقد حدّثتكم عمّا جرى معي خلالها. وانتهينا ظهيرة الأحد تمامًا من قطاف الزيتون لموسم 2025.

ومنذ تلك اللحظة قررت أن أمنح نفسي إجازة للراحة، لا أفكّر فيها بالزيتون، ولا أكتب عنه، ولا عن أي شيء آخر.

وظلت هذه نيّتي حتى حين نزلت إلى سوق نابلس صباح اليوم لقضاء بعض الحاجات. ورغم إحساسي الغريب خلال تجوالي – سأصفه لكم بعد قليل – تمسّكت بنيّتي في عدم قطع الإجازة والعودة إلى الكتابة. لكن موقفًا حدث معي في نهاية الجولة، وكان متعلقًا بالزيت والزيتون، هزّني ودفعني دفعًا إلى إعادة التفكير والعودة لسرد ما حصل.

في بداية الجولة، ذهبت إلى البنك لسحب بعض المال، إذ نفد كل ما كان لديّ من نقد خلال أيام الزيتون. وهناك كان عليّ الانتظار على المقاعد أمام الكاونتر لأكثر من ساعة حتى يأتي دوري، وكأن البنوك لا تعترف بالمثل الشائع: “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.”

ثم ذهبت إلى محل البناشر لإصلاح بنشر في السيارة، وكان الموظف يشكو أن كرم زيتونه لم يحمل هذا العام ولو حبّة، وقد أخبرني العام الماضي أن كرمه سُرق عن بكرة أبيه.

أصلحت الإطار وتوجّهت إلى المجمع التجاري، حيث ركنت السيارة وبدأت عملية البحث عن حاوية أضع فيها خمسة كيلوغرامات من الزيت كان قد اشتراها صديق من رام الله. وكانوا قد وصفوا لي المحلات التي يمكن أن أجد فيها مثل تلك الحاوية، أحدها في آخر شارع سفيان.

مررت أولًا على مختبر عرفان للأسنان في شارع حطين، واحتسينا الشاي معًا ونحن نتحدث عن الأيام الخوالي، إذ تربط والدي بوالده صداقة قديمة متينة.

غادرت محل عرفان واتجهت إلى شارع سفيان مرورًا بالسوق الأخضر، في طابقه السفلي، حيث شعرت بضيق تنفّس، وتعجبت كيف يمضي أصحاب الدكاكين فيه ساعات النهار كاملة! هممت أن أسأل أحدهم إن كان يشعر بوجع في الرأس حين يعود إلى منزله.

ثم ذهبت إلى محل الأدوات البلاستيكية في شارع فلسطين، فمحلات الهدهد القريبة منه، ولم أجد مبتغاي عند أيٍّ منها. وبعد أن يأست من العثور على الحاوية المطلوبة، ذهبت إلى مسمكة العقّاد واشتريت بعض السمك من صديقي زياد، بنيّة شيّه على الفحم ضمن الطقوس الاحتفالية بنهاية موسم القطاف.

وفي طريق العودة إلى المجمع، انتابني شعور بأن البؤس هو السمة السائدة على وجوه الناس الذين صادفتهم في جولتي. تصدّقت عن أمواتي بعشرة شواكل لشخصين من كبار السن يقفون على الأرصفة يستجدون المارّة بعيونهم دون أن تنطق ألسنتهم. أما الثالث فتردّدت في إعطائه، ولا أدري إن كان ذلك من شحّ نفسي أم لأنني اعتبرته غير مستحق للصدقة.

وقبل أن أصل المجمع، اشتريت بعض المكسرات النيئة لأهميتها الصحية لكل من ابيضّت مفارقه وغزا الشيب رأسه. وفي محل تجاري قريب سألت شابًا تربطني به معرفة سطحية عن مكان لشراء وعاء زيت يتسع لخمسة كيلوغرامات، فأشار إلى سوق البصل القريب، سوق نابلس الشعبي القديم. سألته:

– هل أنت متأكد؟

فأجابني: نعم.

استودعت الأغراض عنده لحين عودتي، وذهبت إلى سوق البصل وأنا أقول لنفسي: لعل وعسى.

شققت طريقي في السوق المكتظ حتى وصلت إلى محل الشخشير، المكان الذي اعتدت شراء أصناف التمور منه. هناك استقبلني صاحب المحل بابتسامة عريضة، وأخبرني أنه يتابع ما أنشره على صفحتي، معبرًا عن إعجابه بما أكتب واقول. ولم يكن هو الوحيد الذي عبّر عن إعجابه أثناء الجولة.

ابتعت بعض التمور من عنده وعدت بخفّي حنين من السوق، إذ لم أعثر على الحاوية المطلوبة. مررت في طريق العودة بصديقي الشاب لأخذ الأغراض التي تركتها عنده، وقلت له معاتبًا إن معلوماته لم تكن دقيقة. فسألني مبتسمًا:

– طيب، قل لي: كم كيلو الزيت اليوم؟

فأجبته على سبيل التندر، لأن سؤاله كان عابرًا، وحتى لو أراد شراء الزيت فهو غير متوفر، بأن سعر الكيلو ستون شيكلًا. فإذا بالتاجر صاحب المحل – وكان كأنه يسترق السمع – يستفز عندما سمعني أقول “ستون شيكلًا”، فالتفت نحوي وقال:

– مش عارف إيش الله بدّه يسوّي فيكم!

صدمني كلامه، وهو التاجر الذي لا يرحم، لكنني قررت أن أمتنع عن الرد عليه.

وتساءلت في نفسي وأنا أغادر المحل يائسًا:

هل يعرف هذا التاجر كم من الجهد والتكاليف يتحمّلها مزارع الزيت… والدم؟!؟!

 

من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى