رانية عقل : رسائل الأرض.. لغة الشجر حين تتقاطع الذاكرة مع العلم والروح مع الأرض!

مقدمة: الدهشة الأولى
ليس هناك كائن نمرّ بجانبه كل يوم ونظنه “عاديًا” أكثر من الشجرة، وليس هناك كائن يحمل أسرارًا أعظم منها.
نفكر أنّ الشجرة مجرد ظلّ، جذع، أوراق، ثمر… وننسى أنّها في الحقيقة أعمق الكائنات على الأرض:
تحفظ الذاكرة، تشعر باللمس، تتواصل بلغات خفية، تبني مجتمعًا تحت أقدامنا، وتقاوم الزمن أكثر مما يقاومه الإنسان.
وفي فلسطين، الشجرة ليست شجرة: إنها جغرافيا روحية، وذاكرة لا تُقتلع، وطريقة الأرض في أن تحفظ أبناءها عندما يتغير كل شيء.
هذا المقال هو محاولة للعودة إلى “لغة الشجر”؛ لغة علمية… وإنسانية… وبيئية… وذاكرية… وروحية، لغة كادت تضيع بين ضجيج المدن، وبقيت محفوظة في صدور الجبال والوديان.
1) دهشة العلم: الشجرة ليست فردًا… بل مجتمع كامل
عام 1997 كشفت الباحثة الكندية سوزان سيمارد اكتشافًا قلب علم الغابات:
الأشجار لا تعيش وحدها، بل متصلة تحت الأرض بشبكة فطرية معقّدة تُسمّى:
— Wood Wide Web الإنترنت الخفي للغابة
هذه الشبكة ليست مجازًا، بل حقيقة علمية مثبتة: جذور شجرة تبعث غذاء لشجرة مجروحة. جذع عجوز يرسل الماء للشتلة الصغيرة.
شجرة تتعرّض لحشرة معيّنة فترسل “إنذارًا كيميائيًا” لبقية الأشجار.
أشجار قريبة تشارك فائض طاقتها مع أشجار تمرّ بسنة جفاف.
جذور تبني “ذاكرة تربة” لسنة كاملة، تحفظ فيها ذكريات الحرارة والبرودة.
إنها شبكة تضامن وليس صدفة أن العلماء سمّوا أكبر الأشجار:
Mother Tree’s الأشجار الأم.
هذه الأشجار تدير الغابة كما تدير الأم بيتًا كبيرًا: توزّع الطعام، تراقب، تنبّه، وتضحي.
2) الشجرة تشعر باللمس… هذا ليس شعراً بل فيزياء
عام 2023 سجّل فريق من جامعة تل أبيب أصواتًا فوق صوتية
تصدرها النباتات عند:
اللمس
الجرح
الضغط
العطش
ليست صرخات… وليست مشاعر بشرية… لكنها استجابة كهربائية واعية.
عندما نضع يدنا على جذع الشجرة: تلتقط خلايا القشرة الذبذبات.. ينتقل الشعور عبر موجة كهربائية داخل الخشب.. يتغيّر توزيع الماء والهرمونات.
تهدأ الشجرة أو تتحفّز.
وهذا يفسّر شيئًا نعرفه intuitively ) حدسيًا(
لماذا يشعر الإنسان بالراحة عند لمس الشجرة؟
لماذا يبطؤ نبضه؟
ولماذا يهدأ جهازه العصبي؟
نحن نلتقي بالشجرة على مستوى المجال الحيوي المشترك؛
ذلك الحقل من الذبذبات الدقيقة الذي يتفاعل فيه الجسد مع الطبيعة،
فيهدأ الإنسان… وتهدأ الشجرة معه.
إنها ليست روحانيات خالية؛ إنه علم، لكنّه علم يدهش الروح.
3) مملكة تحت الشجرة: الحياة التي لا نراها
80% من حياة الشجرة ليست فوق الأرض… بل تحتها.
تحت الشجرة طبقة يسميها العلماء: التربة الحيّة ..هذه ليست “تربة”، بل مملكة كاملة يعيش فيها:
ديدان الأرض
يرقات الخنافس
قمل الخشب
الربيعيات
البكتيريا المفيدة
الفطريات الجذرية
نمل التربة
السوس
مئات الكائنات المحلِّلة
آلاف الكائنات الدقيقة
ورقة شجر واحدة تتحلل في الخريف
قد تحتوي على 300 كائن حي يعملون معًا لبناء التوازن.
هذه الكائنات:
تفكك الأوراق
تعيد تدوير الموت إلى حياة
تصنع التربة
تفتح ممرات للهواء
تحافظ على رطوبة الأرض
وتغذّي الجذور
إنها “رئة الأرض” المخفية.
وحين ننظّف الحدائق من أوراق الخريف…
نحن نهدر دورة حياة كاملة.
وهنا يظهر معنى الآية القرآنية الكريمة: “يُخرج الحيّ من الميت ويُخرج الميت من الحي.”
4) الزيتون… الشاهد الأكبر على عمر فلسطين
في فلسطين، الشجرة ليست نباتًا؛ إنها سجلّ حيّ.
الزيتونة الرومية يمكن أن تعيش:
500 سنة
1000 سنة
2000 سنة
وبعضها يتجاوز 3000 سنة مثل زيتونات الجثسيمانية.
الزيتونة تشفى من النار. وتنبت من الجذع بعد القطع. وتعود للنمو بعد الجفاف. وتحمل ذاكرة المكان، وتشهد على من مرّ… ومن رحل… ومن بقي.
إنها ليست شجرة… إنها جغرافيا بلا حدود.. وصمت طويل يروي حكايات القرى التي مُحيَت. وتبقى أشجارها واقفة كأنها تقول: “الأرض تتذكر أكثر مما تتكلم.”

5) العلاقة المعقّدة بين الإنسان والشجرة
علاقة الإنسان بالشجر ليست نفعية فقط…
بل كهربائية، حيوية، نفسية، وغذائية.
عند قطف الثمار: الضرب بالعصي يكسر الملايين من خلايا الخشب
الشجرة تدخل حالة إجهاد.. يتغير نبض الماء داخلها. وتحتاج أسابيع لاستعادة توازنها. أما القطف الرحوم… فيطيل عمر الشجرة، ويسمح لها ان تعمر عامًا بعد عام.
وهنا يظهر معنى شعبي عميق: “الزيتونة أم… ومن يضرب أمّه لا يُبارك.”
6) المناخ يجرح الشجرة… لكن الإنسان هو الخطر الأكبر
الأشجار تستطيع:
تذكر الجفاف
إغلاق الثغور
تعديل البروتينات
تغيير اتجاه الأوراق
إبطاء النمو للحفاظ على الحياة
لكنها لا تستطيع حماية نفسها من:
الإسفلت
قطع الغابات
تدمير الممرات الحيوية
رش المبيدات
اقتلاع الزيتون
التجريف
البناء العشوائي
احتلال الأرض
وإزالة طبقة الأوراق
وهكذا…
المناخ يضغط على الشجرة،
لكنّ الإنسان هو الذي يخنقها.
7) الدهشة الروحية: لماذا الشجرة في قلب الدين؟
القرآن يُعيدنا دائمًا إلى الطبيعة:
“شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.”
“وجنات وأعناب.”
“وأرسلنا الرياح لواقح.”
والنبي ﷺ يقول:
“إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها.”
لماذا شجرة؟
لأن الشجرة رمز:
البقاء رغم الفناء
العمل رغم اليأس
العطاء رغم الخسارة
الحياة رغم القيامة
والجنة نفسها ليست عمارات…
بل أشجار وأنهار وظلال.
كأن الله يقول: “الروح لا ترتاح إلا حيث خُلقت أول مرة: في التراب، ثم الشجر.”
** خاتمة: لغة الشجر… لغة الإنسان العميق
عندما نلمس شجرة…
نلمس شيئًا من أنفسنا
جذورنا
فصولنا
خساراتنا
صمودنا
ذاكرتنا
صمتنا
وبقاؤنا رغم كل شيء
الشجرة ليست كائنًا ثابتًا
إنها كائن يتنفس، يشعر، يتواصل، يتذكّر، يحمي، ويشهد.
وإذا أردنا أن نتعلم لغة الشجر… يجب أن نتعلم أولاً كيف نصغي!
***المراجع العلمية:
Suzanne Simard – Finding the Mother Tree
Peter Wohlleben – The Hidden Life of Trees
Daniel Chamovitz – What a Plant Knows
Monica Gagliano – Bioacoustics Research
Shafir Lab – Tel Aviv University (2023)
Nature Communications – VOCs Studies
Plant Physiology – Heat & Drought Memory
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com


