د. علي خليل جبارين: أجيال الشاشة… الى اين؟

إن الاكتفاء بذكر الظواهر التي أضعفت مجتمعنا ومزقت نسيجه الاجتماعي أو المبالغة في وصفها دون التعمق في أسبابها الجذرية ومعالجتها بوعي ومهنية, لا يؤدي إلا إلى زيادة تفاقمها واستفحالها. ومن هذا المنطلق, جاءت رسالة اليوم لتسلط الضوء على أحد أخطر العوامل التي أسهمت في تفتيت المجتمع العربي في الداخل وولدت شعورا بالاغتراب بين مكوناته, وهو العجز عن تنظيم علاقة أبنائنا بالتكنولوجيا عموما و”بالشاشة الصغيرة” على وجه الخصوص.

منذ أن أصبحت الهواتف الذكية ضيفا دائما في مجتمعنا عام 2012, شهدت العملية التربوية تحولا جذريا أعاد رسم ملامحها وإعادة ترتيب أولوياتها. فقد فتحت هذه الشاشة الصغيرة أمام الأطفال عالما افتراضيا موازيا للعالم الواقعيينغمس فيه الطفل قبل أن يتقن الكلام, ويقضي فيه المراهق وقتا يفوق ما يمضيه في حياته اليومية الواقعية. وبين التسارع الرقمي الهائل ووتيرة المواكبة الأسرية البطيئة,برزت حاجة ملحة لإعادة صياغة مفهوم التربية, وفهم التهديدات النفسية والجسدية واللغوية والقيمية والتربوية التي يواجهها الأطفال حتى سن السادسة عشرة, لما لها من أثر حاسم في تشكيل شخصياتهم وبناء وعيهم.

غير أن المشكلة لا تكمن في التكنولوجيا بحد ذاتها, بل في غياب بوصلة تربوية واضحة. فعندما نعجز عن تحديد العلاقة الصحيحة بين أبنائنا والشاشة, وتضعف القدوةوتغيب الحدود, نترك الأطفال فريسة سهلة لعالم افتراضي غير منضبط, تصبح فيه الشاشة مرجعا بديلا عن الأسرة والمدرسة والأصدقاء. وهنا يتجلى الخطر الحقيقي بكل أبعاده الهدامة.

وفي هذا السياق, برزت تحركات تشريعية في دول أوروبية مثل الدنمارك والسويد, إضافة إلى أستراليا ودول أخرى, للحد من وصول من هم دون السادسة عشرة إلى منصات التواصل الاجتماعي, ولا سيما عبر الشاشات الصغيرة. وتعكس هذه الإجراءات إدراك صناع القرار لحجم الضرر الذي قد تسببه هذه المنصات عند تركها بلا ضوابط, حيث يبررون تحركاتهم بالسعي لاستعادة الطفولة المسلوبة خلف الشاشات, وحماية الأبناء من أسر العالم الافتراضي, وتشجيعهم على نشاط وتفاعل مجتمعي أكثر واقعية. ويعبر هذا التوجه عن وعي عالمي متنام بمخاطر الشاشات الصغيرة والانفلات الرقمي على الأجيال الصاعدة, ويطرح سؤالا جوهريا: كيف نعلم أبناءنا استخدام التكنولوجيا دون أن يفقدوا جوهر إنسانيتهم؟.

لقد باتت الشاشة الصغيرة تؤثر مباشرة في وعي الطفل بهويته وإدراكه لذاته ولغته, وفي اتساع خياله وشعوره بالانتماء. فالمحتوى السريع والمقارنات المستمرة مع نماذج افتراضية وهمية يفرزان جيلا أقل صبرا على مواجهة التحديات, أضعف ثقة بالنفس, أقل قدرة على التركيز, وأكثر عرضة للقلق والعزلة والانطوائية والسلوكيات العنيفة. وفي العديد من البيوت, يجلس أفراد الأسرة الواحدة منشغلين كل بـ”شاشته الخاصة”, أمام محتوى رقمي بصري مشبوه يطرح أسئلة حول المعنى الحقيقي للنجاح,  تعريف القدوة الحسنة, قيمة الجمال و طرق كسب المالالحلال مما يؤدي إلى اختلال الأولويات وتشويه المعنى الحقيقي للقيم والتربية.

هل من حل لهذه المشكلة المقلقة؟ الجواب نعم, ويكمن في كلمة واحدة: التوازن. فالتوازن يمثل المفتاح للتعامل مع تحديات عالم القرن الحادي والعشرين المليء بالمفاجآت,فهو لا يعني منعا مطلقا أو حرية بلا حدود, بل إدارة واعية تعتمد على القدوة الحسنة والإرشاد الحكيم والحوار المفتوح مع الأبناء حول تجاربهم الرقمية. ويشمل ذلك تنظيم وقت الشاشة, خصوصا قبل النوم, مع توفير بدائل حقيقية مثل الفنون والرياضة والقراءة, إضافة إلى أوقات أسرية خالية من الأجهزة والشاشات. على صعيد المدرسة, يصبح تعزيز التفكير النقدي, وتبني التربية الحوارية, وتنمية مهارات التحقق من المعلومات, وغرس قواعد الأمان الرقمي, جزءا من التربية الحديثة. أما المجتمع, فتتمثل مسؤوليته في توفير بيئة آمنة ومساحات توعية تدعم الأهل والطلاب, وتشجعهم على تنمية نشاطاتهم وتفاعلهم المجتمعي بشكل صحي ومتوازن. كما و نتطلع ان يكون تحركا برلمانيا على نطاق الدولة لتحديد سن استعمال الهواتف الذكية و العمل على تعزيز التوعية في هذا الصدد.

ختاما, لم يعد مجتمعنا يواجه مجرد شاشات, بل نمط حياة جديدا وثورات رقمية وتكنولوجية متلاحقة, تجعل التوازن الواعي بين استخدام التكنولوجيا والحياة الواقعية أمرا غاية في الاهمية. فالتكنولوجيا, إذا أحسنا توظيفها يمكن أن تتحول إلى أداة للمعرفة والإبداع بدلا من أن تصبح بوابة للعزلة والاضطراب و الاغتراب, ويظل العالم الحقيقي أكثر جاذبية وإلهاما من العالم الافتراضي. ولحماية أبنائنا, لا نسعى الى محاربة التكنولوجيا, بل تعليمهم كيفية توظيفها لصالحهم ليصبحوا أسيادها لا عبيدا لها, وفقا لما يذكرنا به قول الرسول ﷺ: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”, الذي يحمل معنى الحرص والمحبة والرحمة, فتبدأ مسؤولية الترشيد الرقمي من البيت وتمتد إلى المدرسة والمجتمع. كما يؤكد جبران خليل جبران: “أنتم الأقواس التي تنطلق منها سهام أبنائكم أحياء”, فالأهل يشكلون نقطة انطلاق راسخة تدعم أبنائهم بالقيم الأخلاقية والتربوية التي تمنحهم القوة لمواجهة التحديات وتحقيق أهدافهم. وكما يحدد القوس مدى اختراق السهم للعوائق, تحدد قوة دعم الأهل قدرة الأبناء على بلوغ غاياتهم بثبات, ومن هنا تبرز مسؤوليتنا في أن نكون أقواسا صلبة ومرنة في ان واحد, لتمكين سهام أبنائنا من الوصول إلى أهدافها النبيلة, مؤكدين أن مجتمعنا رغم التحديات ما يزال غنيا بالطاقات التي تنتظر من يوجهها بحكمة وثقة.

والله الموفق و المستعان

من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى