د. فاطمة أبو واصل – اغبارية: غربةٌ في الوطن… وحقيقةٌ نهرب منها

عندما عدتُ إلى الوطن، لم أكن أحمل سوى الشوق.. شوقٌ للمكان، للوجوه، لدفء الانتماء الذي كنت أظنّه لا يتبدّل. ظننتُ أنه باقٍ كما هو. لكنني ما إن خطوت أولى خطواتي فيه حتى لفحني شعور غريب… غربةٌ لا يختبرها المغترب خارج الحدود فقط، بل يعيشها أحيانًا في حضن الأرض التي يحبها.
اكتشفتُ أن كثيرًا من الوجوه لم تعد كما كانت. التفاصيل تغيّرت، نبض القلوب تبدّل، والقيم التي كنا نستند إليها ونشأنا عليها بدت وكأنها فقدت شيئًا من بريقها. أصبح الناس أسرع إلى الأحكام، أبطأ إلى المساعدة، أكثر حرصًا على مصالحهم، وأقلّ وفاءً بوعودهم.
تسمع كلمات جميلة… لكنك لا ترى أثرها.
تُعطى وعودٌ كثيرة… لكنها تتبخّر مع أول ضوء للنهار.
كلامٌ يُقال لإرضائك، لا لإيفائك.
وغريبٌ أن ترى التباهي منتشرًا في كل زاوية؛
الكلّ يتحدث عمّا يستطيع فعله، عمّا يملكه من علاقات وقوة ونفوذ… لكن حين يأتي وقت الفعل، تجد الصمت، الاعتذار، التراجع، أو ببساطة: الاختفاء.
كأن الناس أصبحت تهتم بالصوت أكثر من القدرة، وبالمظاهر أكثر من الجوهر.
ولأن الغربة الحقيقية لا تأتي من بعد المسافة بل من بعد النفوس، شعرتُ أن الوطن الذي تركته لم يعد هو الوطن الذي عدت إليه.
لا لأن الشوارع تغيّرت، بل لأن القلوب تغيّرت.
لا لأن الناس قلّ عددهم، بل لأن الصدق قلّ حضوره.
إنها حقيقة مؤلمة، لكن لا بدّ من مواجهتها:
نحن نمرّ بتحوّل عميق… فيه اختلطت المصالح بالقيم، والوعود بالعجز، والكلام بالفعل.
صرنا نعد أكثر مما نفعل، ونتحدّث أكثر مما نعمل، ونظن أنّ الكلمات تكفي لإقناع الآخرين، بينما الحقيقة أن الثقة تُبنى بالفعل وحده، وتنهدم بكلمة واحدة لم تُنجز.
ورغم كل هذا… بقي سؤال يرافقني:
هل تغيّر الناس فعلاً؟ أم أننا حين ابتعدنا رأينا الصورة أوضح؟
ربما كلا الأمرين…
لكن المؤكد أننا بحاجة لأن نتوقف لحظة، ونسأل أنفسنا بصدق:
هل نحن كما ندّعي أننا؟
هل نفي بوعودنا؟
هل نحافظ على قيمنا؟
هل نعيش بوجهين… واحد نهديه للناس، وآخر نخبّئه لأنفسنا؟
ختاماً.. ليست هذه الكلمات جلدًا للذات… بل مرآة نحتاج إليها ودعوة صريحة لمراجعة ما أصبح واقعًا. فالثقة تُبنى بالفعل لا بالصوت، والوفاء يُعرف حين يختفي الضوء، والإنسان يُقاس بما يفعل لا بما يدّعي.
دعوة لأن نعيد ترتيب علاقتنا بالصدق، وبالوفاء، وبالوعود التي نقولها على ألسنتنا قبل أن نكتبها في قلوب الناس.
دعوة لأن نستعيد شيئًا من ذلك النقاء القديم الذي كان يجعل للإنسان قيمة قبل كل شيء.
وربما آن الأوان أن نسأل أنفسنا بصدق: هل نحن صادقون بما يكفي لنغيّر هذا الواقع؟ هل نريد وطنًا يخفف غربتنا، أم وطنًا نغترب فيه ونحن نقف على أرضه
فالغربة داخل الوطن ليست قدَرًا هي نتيجة. نتيجة يمكن تغييرها حين نقرر أن نكون أوفى، أصدق، أعمق، وأقل ضجيجًا.
ليتنا نعود كما كنّا…
وليتنا نفعل أكثر مما نقول.
وليت كلام الليل لا يمحوه النهار!
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com



