د. حسن حميد: العطش

يا لهذه الكلمة ما أكبر معناها، وما أوفى مقاصدها، وما أغنى دربها؛ العطش! أي أن ترتوي الذات بما حلمت به، وأن ترتوي الأرض بالمطر، وأن ترتوي الروح بما تاقت إليه قبل الخروج الأخير.
الشاعر الفلسطيني الكبير عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، وقبل رحيله، كتب لصديقه الروائي عبد السلام العجيلي الذي جاء إلى فلسطين عام 1947 طبيباً ليداوي جروح المتطوعين الفلسطينيين والعرب الذين هبوا لنصرة الشعب الفلسطيني المطالب بالاستقلال والسيادة والحرية، كتب إليه يقول: كتبت قصيدة، أظنها تليق بالشعر، وفي بالي إضافة بيتين إليها أو ثلاثة، لكن المرض يحول بيني وبين الشعر، أنتظر شمس شباط كي تبدو، لأكتب هذه الأبيات الثلاثة التي أرددها يومياً بين أخذي حبات من الأدوية، وشوط من أخذ الإبر، نعم، هذا عطش يطلبه الرواء الشعري.
إسماعيل شموط، دنيا اللون، وبرج الدهشة الفنية، يقول في سيرته كل ما رسمته ليس سوى فلاحة أولى لأرض تعد بالخير الوفير، وهو الفنان الذي رسم لوحات فلسطينية تملأ متحفاً كثير القاعات والساحات، إنه العطش، وعشق الارتواء لتصير الصورة أوضح وليصير الضوء أضحى.
محمود درويش، وبعد رحيله وجد الأصدقاء وراءه ،الكثير من القصائد، واستغربوا عدم نشرها، وتساءلوا: كيف هذا وهو من هو! دور النشر الكبيرة تتلهف لنشر ديوان جديد له، والنقاد ينتظرون قصائده ليكتبوا عنها، ومع ذلك يتريث، وهو يعرف أنه ذاهب إلى سرير العافية في بلاد الغرب، وقد يحدث الذي حدث، ومع ذلك تريث! هذا هو العطش للارتواء والعطش للجمال المضاف، والعطش للصياغات المحلومة، كي تظل الكبرياء في مكانها عزيزة عالية.
أقول هذا، وقد سرتني حالة العطش، وطلب الارتواء الفني والأدبي والإبداعي لدى اثنين من أهم كتاب السرد الفلسطيني، محمود شقير (أبو خالد) ومحمد علي طه (أبو علي)، أولهما في حصنه، في القدس، والثاني في حصنهفي حيفا، هاهما يصدران أعمالاً أدبية في القصة القصيرة والرواية وبعزم من يبدأ حياة الأدب وتجاربه اليوم؛ ها هما يقولان وبالوضوح الكامل: الحياة تعرفبالعمل، وإن انقطع العمل، انقطعت الحياة.
محمود شقير مواليد (1941) عذبته الحياة، ودارت به الأمكنة بسبب ما آمن به وارتضاه صيغة عيش لتكون سيرته مثالاً لمن سيأتون بعده، حياته الاجتماعية (وهو ابن السواحرة)، وثقافته الفكرية، وفهمه لمعاني الوعي من جهة، والجمالي من جهة أخرى، وقناعته بأن الحياة لا يخلدها سوى التعب.. كلها جعلته يعي معنى العطش للارتواء الوطني، والأدبي، والجمالي، وأنّ العطاء، بحرص، وصدق، وإخلاص، هو الحياة، لذلك ما زال يكتب مدونته الأدبية ،منذ عقد الستينيات وحتى يومنا هذا، وهو يردد ما زال لدينا ما هو جدير بالكتابة والفن، والموضوعات متجددة في كل لحظة وساعة، ومتطلبة، وأنا كفيل بها، والحق، أنه ما من أحد من أدباء فلسطين كتب عن القدس مكاناً و بشراً مثل محمود شقير، إنه المؤرخ الأدبي لعقباتها، وعائلاتها، وأحلام أهلها، وهذا مجد لا يدانيه مجد، وهذا مجد لا يواريه أو يطويه مجد آخر، وهذا عطش العشاق الذين آمنوا بمقولة (الموت عشقاً)، وهذا عطش لا ترويه الأسئلة والأحلام، ولذلك يكتب محمود شقير ،ويبدع، ويسوح في عوالم الفن كيما ترضى عنه القدس، وإن رضيت القدس، رضيت الدنيا.
ومحمد علي طه مواليد (1941) خدين محمود شقير في الكثير من المقارنات، فهو ابن قرية، تقاليده وعاداته وأعرافه وتصوارته هي ما عاشه وعرفه محمود شقير، والظلم الذي اكتوى به الاثنان صورته واحدة وآهاته الغضبى واحدة، وحلمهما واحد، هما عاشقان للأدب والفن والجمال، قصص محمد علي طه ورواياته حين وصلت إلى أيدينا كانت من أثمن الهدايا وأغلاها وأنبلها، أذكر أن قصصه في مجموعة (وردة.. لعيني حفيظة)، وحين وصلت إلى يدي، لم أضعها على رف مكتبتي الصغيرة، بل خبأتها في صندوق أمي الشامي، أبو الصدف الراهج اللماع، قرب دامرها، وثوبها الأسود المطرز، وعرجة رأسها أم الليرات الذهبية، وقرب العلبة التي فيها كوشان الأرض في قريتنا (أكراد البقارة) قرب جسر بنات يعقوب، وقد استغربت أمي، ونظرت إلي نظرة خوف وحذر، وتعوذت وحوقلت، يومذاك ما كانت آلات النسخ منتشرة في المخيم، وإلا لنسخت عشرات النسخ منها ووزعتها على أصدقائي، تلك المجموعة كانت كفيلة بأن تمنح أستاذ المدرسة محمد علي طه الشهرة المشتهاة، لكنه ومنذ خمسين سنة، يردد كل صباح، وكل مساء، وماذا بعد؟! أي ما الذي سيكتبه مجدداً، نعم إنه العطش لعافية الحياتين، الحياة مع الناس ليكتب آهاتهم وأحلامهم،والحياة مع الفن والجمال ليضيف إليهما ما هو نايف.
بلى، محمود شقير، ومحمد علي طه، ظاهرتان أدبيتان، وليسا مجرد اسمين أو تجربتين، وظاهرتان للعطش الجميل طالب الارتواء من الينابيع العزيزة التي لا تطيق المضايفات المتواضعة، فهما وفي كل مؤلف جديد يبدعان مثلما تبدع الطبيعة وردها وقمحها وشجرها وأنهارها وأطيارها، وهذه السلوكية الأدبية لا نراها في المشاهد الأدبية العربية إلا على ندرة حيية.
نعم، تعرف الأرض إن عطشت بأنّ المطر قادم وسيعمها، ويعرف الأدباء أهل المكنة والمكانة، أنّ الأدب الأصيل لا جغرافيات له، ولا حدود، ونعرف نحن أن محمود شقير ومحمد علي طه هما بيننا بركة الفن الرفيع المدهش، وبركة الحضور الأدبي المحلوم.
* الكاتب أكاديمي وروائي فلسطيني
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com