ب. ابراهيم طه: الشراشيح وغراب البين!

لا أعرف بالضبط لماذا تأخذني هذه الأيّام العصيبة إلى سنوات ما بين الحربين 67 و 73. ما هو وجه الشبه؟ لا أعرف. لكنّ الله تعالى يخلق من الشبه أربعين. أحيانًا يخلق أقلّ وأحيانًا أكثر.. على كلّ حال، في تلك السنوات حصرًا كنت أمارس فنونًا فلاحيّة كثيرة بعد الدوام في المدرسة وأيّام العطل. أهمّها ثلاثة: صناعة الشراشيح، رعي المعزى وبيع بعض الخضروات والفاكهة في سوق عكّا. الفنّ الأول، فنّ الشرشحة. والشراشيح جمع شرشوح. والشرشوح يعني فزّاعةً. هكذا يسمّونه في بعض قرانا باعتبار أنها تُفزع الأرانب والطيور وخصوصًا الغربان السوداء وتُقصيها خارج حدود المقاثي. وهذه الطيور السوداء وقحة، لا تكتفي بنقر البطيخ والشمّام والفقّوس، بل تجلب معها الشؤم. فالها على حالها. والغراب لا ينعق إلا في الخراب. وهو ابن عمّ البومة. وهي الأخرى لا تُنذر إلا بالشؤم ووقحة، أوقح منه، لا تقطع فيها الصرامي المقلوبة ولا دعاوي النسوان. كانت المقاثي كثيرة، موارس كبيرة وطويلة ممتدّة. ولمّا كانت كذلك كان لا بدّ من زرع العديد من الشراشيح في المقثاة الواحدة ونشرها بحيث تغطّي كلّ فضاء المقثاة. وهكذا تعمل هذه الشراشيح بطاريّات صاروخيّة تشبه بصفة جزئيّة القبّة الحديديّة التي تنشرها إسرائيل في كلّ مكان. التشبيه غير دقيق، لكنه يوضّح الوظيفة الملقاة على عاتق الشرشوح لمن خلق بعد عصر الشراشيح ولا يعرف عنها شيئًا.
لكن ما هو الشرشوح أصلا؟ الشرشوح هو مصلّب، تقاطع فرعين من فروع الزيتون. وهو عادة ما يكون بطول متر ونصف أو مترين. نحن نصلّب الفرعين نربطهما ببيوت المدّادة ونشدّهما بلبش البطيخ. نزرع الشرشوح في الأرض زرعًا. ثمّ نكوّر له رأسًا، ليس له خوار، من الأعشاب الطريّة أو اللبش. ونُلبسه من الخرق العتيقة البالية الممزّقة التي نحتفظ بها لمثل هذه المهامّ. وهذه الخرق، بالألوان الأربعة التي حدّدها صفيّ الدين الحلّيّ، كانت في أصلها أثوابًا وبناطيل وسراويل خرجت إلى التقاعد القسريّ، بعد خدمة سنوات طويلة، ووجوه طراريح أكل البول اللاإراديّ الليليّ والصنّة من شكلها ولونها ورائحتها. أكل حتى التخمة. ولمّا كانت هذه الخرق تسمّى شراشيح في فلسطينيّتنا فكان لا بدّ أن نسمّي المنتج النهائيّ منها على اسمها. وهي مادّة مركزيّة في خطّ إنتاج الشراشيح. كنا نبالغ في تبشيع الشراشيح ونتفنّن في تشويهها لعلّها تقوم بوظيفتها على أحسن وجه…
الشراشيح تحت والغربان فوق. كانت الغربان اللئيمة نكحيّة ذكيّة. كانت تراقبنا باهتمام ونحن نزرع الشراشيح “المخيفة” في المقثاة.
كانت في البداية تمتحن الشراشيح فتَغِير على أطراف المقثاة دون أن تنقر شيئًا من خيراتها. كانت تختبر. تضع الشرشوح القريب منها في امتحان. لا أبالغ ولا أزلّ بكلمة. ولمّا رأت أنها تَغِير المرّة بعد المرّة والشرشوح المجاور أو المناوب لا يحرّك ساكنًا فكانت تكتسب ثقة بنفسها وتتمادى أكثر وتدخل المجال الجوّي للشرشوح. والشرشوح لا يهشّ ولا ينشّ. كان الشرشوح الواحد في هذه الحالة ينطبق عليه المثل المألوف عند المسيحيّين “مثل كلب المطران لا بعوّي ولا بلحق الغنم”. حتى العواء يستثقله كلب المطران ويستكثره. مع أنه كلب ابن كلب. وعند المسلمين مثلٌ يشبهه “كلب الشيخ شيخ”. كلب أرستقراطيّ كلب الشيخ، أو متبرجز، مستهلك كسول. عالة على غيره. كان يحرن لا يقوم بحركة من باب الغنج والدلال. يلهث حتى وهو مستريح في ظلّ شجرة. تعبان من كثرة الراحة. هكذا ظلّ الشرشوح “الفزّاع” بالضبط، مهما بالغنا وتفنّنا في تبشيعه، مثل كلب الشيخ والمطران أمام ذكاء الغربان.
ما العمل؟ إذا كان منظر الشرشوح لا يُفزع أحدًا من الغربان ولا حتى البلابل فكنّا نعيدها إلى خطوط الإنتاج لنجري عليها مزيدًا من التحسينات التكنولوجيّة. وكنا نعلّق عليها من علب التنك كي تصدر أصواتًا مزعجة كلّما هبّت نسائم واصطدم بعضها ببعض. إذا كان منظر الشرشوح لا ينفع كنّا نعزّزه بأدوات مضجّة لعلّ صوته يشفع. وهذه التحسينات أيضًا كانت تخضع باستمرار لاختبارات الغربان. وسرعان ما تكتشف زيفها وخواءها. فتعود وتنقر خيرات الموسم في المقثاة بنوع من التحدّي..
بكثير من التحدّي والصلف هذه المرّة. ومن أين لي أنها كانت تتحدّانا بصلف؟ لأنّ الغراب الواحد منها كان ينقر البطّيخة أو الشمّامة ولا يكمل أكلها، لينتقل إلى أخرى إمعانًا في التخريب من باب المناكدة. البطيخة التي يأكل منها لا يعود إليها، يتركها تخرب بهدوء وصمت بحرارة الصيف الحارقة. صدقًا. أنا أعرف ناسًا كثيرين مثل الغربان إذا تغدّوا من طبخة لا يقربونها في العشاء أو في اليوم التالي.. غريب!
هكذا قامت الشرشوحيّة أو صناعة الشرشحة على ثلاث حواسّ مركزيّة، هي ثلاث أثافٍ كبرى في هذه الصناعة: الرؤية والشمّ والسمع. المنظر المفزع ورائحة البول والصنّة وضجيج التنك. وكانت كلها تفشل أمام الغراب اللعين الواحدة تلو الأخرى. لحاه الله. ولمّا كانت هذه الشراشيح قلّتها أحسن منها، مثل كلب الشيخ والمطران، كنت أنا ومحمّد أخي نحمق ونغضب فنقوم بتحطيمها كلّها كما فعل المسلمون بأصنام مكّة. ويحمل كلّ واحد منّا بيمينه تنكة نضع فيها بعض الحصوات ونخرخش، ونظلّ نخرخش بها ذهابًا وإيابًا في المقثاة. كلّ واحد منّا في اتجاه..
وفي شماله يحمل قضيبًا مقشّرًا نهشّ به من بعيد على كلّ غراب يحاول الاقتراب من المقثاة. كانت الغربان تهاب من الحركة، ترتدع فتنعق باحتجاج، تغادر وهي تنعق. الغربان لا تخاف من المناظر المقزّزة ولا الروائح المنتنة ولا قرع الطبول الفارغة. الغربان تخاف من الحركة. وفي الحركة بركة. ترانا في حركة دائبة فتدرك أنّ هناك حياة على الأرض، حياة حقيقيّة وليست افتراضيّة أو مجازية مزيّفة فتخاف وتنقلع…
وبعد كلّ هذا اللفّ والدوران ما زلت لا أعرف بالضبط لماذا تعيدني هذه الأيّام القاهرة إلى عصر الشراشيح… فعلا، يخلق الله من الشبه أربعين. أحيانًا يخلق أكثر وأحيانًا أقلّ. هذه المرّة خلق أكثر!!
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com