د. علي خليل جبارين: تشويه الوعي يرسخ العجز!

لقد استوقفني موقف البروفيسور الفلسطيني-الأمريكي الراحل إدوارد سعيد من  اتفاقية أوسلو (1993), حين  صرح بأن هذه الاتفاقية  ليست سوى النسخة الفلسطينية من معاهدة سايكس-بيكو (1916). و للوصول لفهم أعمق لهذا التشبيه اللافت, لا بد من مراجعة نقدية سريعة لهاتين الاتفاقيتين.

تكشف هذه القراءة أن الشرق الأوسط، منذ سايكس-بيكو وحتى أوسلو، كان ساحةً لعمليات تفكيك وإعادة تشكيل جغرافية وسياسية,  تمت وفق رؤى ضيّقة ومصالح متعارضة,  لا وفق مشروع وطني جامع. لقد أفرزت تلك الاتفاقيات خرائط مُفروضة,  استندت إلى ولاءات قبلية, أو طائفية, أو عِرقية, أو مصالح سلطوية ضيقة, مما حوّل الأوطان إلى مساحات متنازَعة, لا كيانات متماسكة. ونتيجة لذلك, تراجعت فكرة الوطن إلى مجرّد شعار يُردَّد في المناسبات, بينما تفكّكت الهوية الوطنية لصالح انتماءات فرعية متناحرة.

يشير إدوارد سعيد إلى أن الخطاب الاستشراقي لم يكتفِ بتصوير الشرق على أنه كيان ضعيف, عاطفي, غير عقلاني, ينجذب إلى الخرافة والشعوذة, بل تجاوز ذلك إلىإعادة تشكيل وعي “الشرق” بنفسه من خلال هذه الصور المشوّهة. وهذا ما أشار إليه فرانتز فانون بمصطلح “تذويتالظلم”, حيث يتحول القمع والاضطهاد من أفعال خارجيةإلى مكونات داخلية في الهوية الفردية والجمعية, فيُنظر إليها كقدر محتوم.

و قد عبّر باولو فريري عن ذلك بقوله:  “يسكن الظالم داخل المظلوم“,  مشيرًا إلى لحظة يرى فيها الفرد نفسه من خلال عين من يقوم باضطهاده.  ويتحقق هذا التغلغل عبر أدوات كاللغة,  والتعليم, والإعلام,  والخطاب الديني، ما يجعل من الظلم نظامًا معرفيًا متجذرا يُعيد إنتاج القهر من الداخل.

فانون أشار أيضًا إلى نتيجة خطيرة لهذا القمع المكبوت: فعندما يُحرم المستعمَر او المقموع من تفريغ غضبه في وجه مضطهده، يعيد توجيه العنف نحو ذاته أو باتجاه  مجتمعه,  في ما أسماه “العنف الأفقي”. أما سعيد، فسلّط الضوء على البُعد الخطابي لهذا العنف,  موضحًا كيف تصوغ الروايات الاستشراقية وعي الشعوب المستعمَرة، فتنزع عنها القدرة على السرد الذاتي,  وتُقنعها بانخفاض قيمتها الوجودية والمعرفية.

هذه الظاهرة تنعكس على المجتمع المكبوت  في شكل تفكك هوياتي,  عنف داخلي، تشرذم سياسي واجتماعي,  تقويض مكانة القدوة والمرجعية  وتبني لغة القوة والبلطجة بين افراده.  

ويتضح أيضا انه كان ولا يزال لمعاهدة سايكس-بيكو “السرية” التي وقعها كل من سايكس الإنجليزي وبيكو الفرنسي عام 1916  بالغ الأثر في تفتيت الهوية و الجغرافيا و شرذمتهما,  وتشويه الوعي. فكيف السبيل إلى تجاوز هذا “الوعي المشوَّه” الذي أورثته  هذه المعاهدة  وما شابهها من مشاريع التفتيت؟.  لن اتطرق للجانب السياسي  بل سأحاول التركيز على الجانب التربوي القيمي لهذا السؤال الصعب!

إن التربية الحقة,  كما تجسدت في أسلوب الرسول محمد ﷺ,  والتي اعتمد فيها أسلوب التربية المباشرة والغير مباشرة,   تتجاوز حدود الرعاية المادية وتوفير الاحتياجات اليومية,  لتصل إلى بناء الإنسان في وعيه,  وقيمه، وكرامته. فقد كان النبي ﷺ يربّي بالرحمة,  والحوار,  والقدوة، مؤسسًا بذلك نموذجًا تربويًا يُعلي من شأن الإنسان لا بوصفه جسدا فقط,  بل كعقل وقلب وروح. انسان يعتز بهويته وانسانيته. وهذا ما نفتقده اليوم في كثير من مؤسساتنا التعليمية وبيوتنا، التي غالبًا ما تختزل التربية في الرعاية المادية أو الانضباط، متجاهلة البُعد الأعمق المتعلق بتشكيل الوعي وتحرير الفكر.

الامر الاخر الذي لا يقل أهمية هو تشجيع التربية النقدية كونها العدسة التي يمكن من خلالها تحديد الفجوات, ومعرفة الأسباب الجذرية الكامنة وراء التهميش والتمييز,  الذي تسبب في تشويه الوعي وترسيخ العجز. ومن هنا تبرز الحاجة الملحّة إلى اعتماد التربية النقدية,  بوصفها مدخلًا لاستعادة دور المدرسة كمكان لتكوين الإنسان الواعي,  القادر على مساءلة الواقع وتغييره,  لا التكيّف معه أو إعادة إنتاجه.

عندما تتقاطع التربية الدينية المستنيرة مع التربية النقدية، بقيمها الإنسانية النبيلة, يُصبح من الممكن تنشئة مُربين ومُربياتٍ قياديين, قادرين على بناء الإنسان القادر على إحداث التغيير, والقيادي الذي يُدرك معنى الحياة الكريمة.إنسانٌ فاعلٌ يقف في وجه الظلم، سواء أكان موجَّهًا إليه أو إلى غيره, إنسانٌ قادر على تجاوز تبعات سايكس-بيكو وأخواتها.

(مصادر مهمة: إدوارد سعيد,  فرانتز فانون,  باولو فريري   ومارك تَابان).

والله الموفق والمستعان

 

من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى