ب. محمد امارة: هويتي كانت لي وطنًا حين ضاق الوطن!

منذ لحظة ولادتي، كانت الهوية ظلّي الذي لا يفارقني، ومرآتي التي أرى بها وجهي في مرايا الأيام. عشتها في تفاصيل الحياة، وصارعت بها ومن خلالها، وكانت لي وطنًا حين ضاق الوطن، وصوتًا حين خفت الصوت. كتبتُ عنها كثيرًا في أبحاث مستفيضة، وربطتها باللغة، وتحدثت عن ملامحها، عن عناصرها، عن جراحها، عن لغتها التي تسكنني وتسكنها… حتى صارت الهوية مني، وصرتُ أنا منها.
في كل مرةٍ وُجِّه إليّ السؤال خارج البلاد where are you from ؟ كنت أبتسم… ثم ألوذ بصمتٍ قصير، لا لغياب الجواب، بل لفرط تعقيده. فالإجابة لم تكن يومًا جغرافيةً محضة، بل سرديةً متداخلة؛ أنا فلسطيني، من قرية صغيرة في الداخل، مواطن في دولة لا تعترف بي كما أنا، بل كما تشتهي أن أكون. تعرّفني بقوانينها، لا بملامحي، ولا بروايتي، تنسبني إلى روايتها، لا إلى حكاية جدّي، تُفصلني على مقاساتها لا على مقاساتي.
درّستُ في جامعاتٍ لا تنطق بلساني: عبريّة حينًا، وإنجليزيّة حينًا آخر، وألقيت محاضراتٍ في قضايا ليست موضوعًا بحثيًّا فحسب، بل تجربةً أعيشها بكل جوارحي، وأشعر بها وأعيشها على جلدي لا بين دفّات الكتب.
هويتي ليست بطاقة تعريف، بل سجلّ من التناقضات والتجارب، أرشيف من التكيّف والمقاومة، من الانتماء والغربة. كنت أمشي، وكأن داخلي طبقات من الأنا، تتعايش أحيانًا، وتتعارك أحيانًا، لكنّها معًا تشكّلني: هذا الكائن الذي لا يُختزل في حدودٍ ولا في علمٍ ولا في تعريفٍ إداري، قانوني أو شكلي.
وفي كل سياق أضطر أن أقدّم طبقة دون أخرى… لا نفاقًا، ولا خوفا، بل حفاظًا على وضوح الموقف، أو بالأحرى اختصارًا لموقف. وأشعر أن الأنا ليس مكتملا، بل مجزءًا، أقدم جزءا منه في سياق ما، وجزءا آخر في سياق آخر. يا له من واقع قاسٍ! كبهلوانٍ يسير على خيطٍ رفيع، يحاول في كل لحظة أن يحافظ على توازنه لئلا يسقط.
في العالم العربي، كنت “العربي من الداخل”، وفي إسرائيل، “العربي/الفلسطيني”، وفي الغرب، “المثقف القادم من منطقة صراع”، أما في ذاتي، فأنا محصّلة كل هذا… وأكثر. وأريد أن أصرخ لأقول من أنا، ولكن، كل طرف يرى الجزئيات. وأنا كل هذه الجزئيات، التي عليّ أن ألملمها بحذر كي لا تضيع.
تعلّمت أنّ الهوية ليست جدارًا صلبًا يُحاصرنا داخله، ولا ختمًا أزليًا يُطبع على جبيننا، بل هي كائن حيّ يتنفس ويتحوّل. تنمو كما تنمو الشجرة حين تمتد جذورها في أرضها، لكنها لا تعرف حقيقتها إلا حين تهتزّ في الرياح أو تُقتلع لتواجه تربة أخرى. الهوية لا تُختبر في الركود، بل في الحركة؛ ولا تُعرف في الانغلاق، بل في الانفتاح على الآخر..
إنّها مرآة تُصقل كلما ابتعدت عن حدودك المألوفة، وكلما تجرأت على عبور الغير مألوف والمختلف.
حين تغادر حدودك، لا تخسر ذاتك، بل تكتشف أنّ ذاتك كانت أوسع مما ظننت، وأن الهوية ليست قيدًا، بل رحلة لا تنتهي من النمو، والتفاعل، وإعادة الاكتشاف.
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com