المحامي سعيد نفاع: غزّة بين الانتصار والانتحار وبيروس.. وقفات على المفارق

 الوقفة الأولى… والأوزار

أمّا وقد أُسدِل الستار على “المسرحيّة الكوميجيديّة” (مع الاعتذار لشكسبير) بفصليها الإسرائيلي والشرمشيخي، فالحرب على غزّة أبعد من أن تضع أوزارها ومن الصعوبة بمكان التخمين ما يمكن أن تؤول إليه الأمور وبالذات لأنّ هذه الحرب ما كانت إلّا معركة في حرب طويلة على الشعب الفلسطينيّ، فلا نتانياهو ولا ترامب من الذين يؤتمن لهم جانبًا ولا أصدقاؤهم من الحكّام العرب والمسلمين. وبغضّ النظر توالت بيانات النصر وكلّ من الجانبين “ينعفها” على نفسه “نعفًا”. تمّت الخطوة الأولى؛ عمليّة التبادل، ولكن يظلّ السؤال إن كان ذلك مؤشّرًا على الآتيات ما دامت المعركة على الشعب الفلسطيني أبعد من تضع أوزارها؟!

أوائل تشرين الثاني 2023 كتبت في السياق: “يبدو أنّ في قول أهلنا: “إن ما كبرت ما تصغر”، الكثير من صحّة تراكم تجاربيّ. وانطلاقًا، أعتقد أنّه لا يمكن أن تنتهي هذه الحرب وبغضّ النظر عن شكل نهاياتها إلّا عن حالة جديدة استراتيجيّة في كلّ ما يتعلّق بالصراع العربي الصهيونيّ وعلى الغالب نحو الأفضل، ومع هذا المقولة: “لا تكرهوا شيئّا لعلّه خير” غير سارية المفعول في سياقنا.” (بمعنى الحرب وأثمانها حتّى لو أتت بأفضل، تظل أبعد ما يكون عن الخير).  فهل أتت الحرب على غزّة بحالة جديدة استراتيجيّة نحو الأفضل في القضيّة الفلسطينيّة بغضّ النظر عن المنتصر والمهزوم؟! أم أنّ توقّعي هو توقّع الحالم المتفائل؟!

الوقفة الثانية… والانتصار على الوعي السائد

بغضّ النظر عمّا يدّعي كلّ طرف عن انتصاره وتعليلاته، فالانتصار في المواجهات؛ عسكرية ثقافية أو حضارية كانت، هو الانتصار على “الوعي السائد” الذي عادة ما يُولَد من اعتقاد يسود عند المجتمعات المختلفة والمتواجهة منها. الوعي السائد أنّ صراعا على أوجه الحياة المختلفة يدور بين الشمال الغني والصهيونيّة جزء منه، والجنوب الفقير والعرب والمسلمون في طليعته. هذا الصراع والذي يحاول البعض أن يخفّف من حدّته أو حتّى أن ينكره قائما كان ومازال، ومن يعتقد أنّ الحرب الأخيرة ليست جزءا من هذا الصراع فواهمٌ. هذا الكلام كنت كتبته سابقًا في سياق الحرب على لبنان تمّوز 2006، وأراه صالحًا اليوم في سياقنا، لا بل أكثر من صالحٍٍ.

الهدف أو الأهداف من القتال واختلاف الرؤى في وبين أهداف طرفي القتال هي المعيار، علما أن الهدف الحقيقي لا يقال أبدا، والأقرب إلى الحقيقة هو ليس ما يقال، إنما في مكان ما وراء ما يقال، يستنبطه الكاتب أو القائل الواقعيان من الأقرب إلى المعقول لا إلى العاطفة أو الرأي المسبق المتماثل مع الموقف أو الحدث، فبين التماثل والتأييد مسافة شاسعة. الأهداف الحقيقية لهذه الحرب هي أعمق كثيرا مما يقال حول المباشرة منها، فأهدافها غير المباشرة هي الأهمّ وهي تدور على “الوعي السائد ” لدى طرفيها. وكل ما عدا ذلك ثانوي وصراع على رأي عام مفقود في الكثير من الأحيان خصوصا حيث تغيب الديموقراطية. الرابح في هذه الحرب ليس الذي يقتل أكثر ويدمر أكثر ويحتل أكثر، الرابح هو الذي يستطيع أن يدّعي لاحقا ويثبت ادعاءه بالوقائع أنّه غير شيئا في “الوعي السائد” في معسكره وفي معسكر عدوّه على درب تحقيق أهدافه.

الوعي السائد لدى المجتمع الإسرائيلي وبكلّ مركّباته ومنذ ما يزيد على قرن؛ منذ بَدْء الصراع العربي اليهودي، أنّ العرب والمسلمين لم يسلّموا ولن يسلّموا بوجود إسرائيل، والطريقة الوحيدة التي يفهمون هي لغة القوة، ولذلك على إسرائيل أن تبقى قوية ساحقة ماحقة كسبيل وحيد لجعلهم يقبلون بوجودها أو على الأقل ليسلّموا بوجودها. ومن نافل القول أنْ يقال إنّ الولايات المتحدة والغرب كلّه سندها في ذلك كجزء منه ومن الوعي السائد لديهم. من تبعات هذا الوعي السائد لدى إسرائيل هو الاعتداء الدائم على حقوق جيرانها حتى المنقوصة منها إن كان ذلك في فلسطين ال-67 أو لبنان أو سوريا، ناهيك عن النكبة 1948.

أمّا الوعي السائد لدى طرف المعادلة الآخر هو فعلا عدم قبول الوجود إنّما التسليم بالوجود إلى أن “يفرجها الله”! وأي كلام آخر هو “دبلوماسية” الأضعف غير الماسك بزمام الأمور؛ من مفكّرين وساسة ومن الناس العاديّين بكلّ مركّباتهم، أو “دبلوماسية” المصالح عند الماسك بزمام الأمور؛ الحكام ومن لفّ لفّهم.

في المرحلة البينية هذه ينتج عن هذا الوعي السائد العام وعي آخر أقل مرتبة خاص. جاء إقدام “حماس” على عمليّة 7 أكتوبر وما يمثله مثل هذا العمل، ليقوض أسسا تحت هذا الوعي الخاص الذي ساد لدى الطرفين، وخصوصا تحت أسس الوعي السائد لدى إسرائيل والذي اعتقدت وتعتقد أنها رسّخته بقوّتها التي لا تقهر مسلّطة على رقاب الطرف الآخر الذي بات لا يجرؤ أن يرفع حتى نظره فيها؛ الردع في قاموسها، وإلّا بها تجد من تجرّأ بشكل غير مسبوق.

رغم ذلك يظلّ الانتصار في هذه الحرب رهينة الوعي الذي سيسود بعدها. إذا غيّرت هذه الحرب الوعي السائد لدى الجانب الإسرائيلي بأنّ القوة المعتمدة على أن الجانب الآخر لا يفهم إلا إيّاها وسيلة، إذا غيّرت هذا الوعي بوعي مفاده أنْ ليست هذه الطريق لاستمرار وجودها، فهذا انتصار مدو لنهج المقاومة لدى الطرف الأضعف في ميزان القوى، لن تسلّم به إسرائيل بهذه السهولة، لكن يكفي أن يسود لديها وعي ولو باطني ينتج عنه الاعتراف بحقوق العرب المبلوعة على يديها ولو بعد حين. وإذا غيّرت هذه الحرب الوعي السائد لدى الطرف الآخر بالتسليم بالتفريط بالحقوق تحت مطرقة القوة فهذا تتمة للانتصار. أما إذا بقي الوعي السائد لدى الطرفين على حاله ستكون حينها الأرواح التي زهقت راحت سدى.. فهل غيّرت هذه الحرب؛ طوفان الأقصى بالتسمية الحمساويّة، أو الحراب الحديديّة ومركبات جدعون في التسميات الإسرائيليّة، في الوعي السائد لدى الطرفين؟!

هذا الأمر مرتبط ارتباطًا عضويّا بالأهداف التي وضعها كلّ لنفسه؛ المبادر، وهذه المرّة حماس التي بادرت وفي وعيها أهداف وضعتها (غير تقليديّة هي موضوع الوقفة القادمة)، وإسرائيل والتي “كأنّها الرادّة” وضعت لنفسها أهدافًا مختزلة من كونها رادّة، أهداف مجترّة لا حاجة بنا هنا لذكرها. في الوقفة الآتية آثرت أن “أعتدي” معتذرًا؛ على ما كُتب حول أهداف حماس لأنّي لم أجد أنّي يمكن أن آتي بأفضل منه!

الوقفة الثالثة… والانتحار الجماعيّ والتجريد من الأخلاقيّة

أكثر ما قرأت لفتًا للانتباه حول حرب الإبادة على غزّة والانتصار من عدمه هو للكاتب: عبد الخالق الراوي زوّدني بمقاله صديق لبنانيّ – أميركي، يقول الراوي: “هل هي صرخة حرية، أم انتحار؟! كيف كان يفكر يحيى السنوار قبل الأمر بتنفيذ السابع من أكتوبر؟! منذ اللحظات الأولى لمشاهدتي السابع من أكتوبر، تلك العملية التي غيّرت مجرى التاريخ، كنت أتساءل: يا ترى، ماذا دار في خلَد يحيى السنوار؟ كيف يفكّر رجلٌ يعرف أن هذه الخطوة ستفتح أبواب الجحيم على غزة وأهلها؟ هل فقد السيطرة؟ هل انتحر؟ بل هل انتحرت غزة بأكملها؟ وهل كانت هذه خطوة عسكرية بحتة… أم أنها كانت شيئًا آخر، أعمق؟

السنوار في تلك اللحظة لم يكن “فردًا”. بل تجسيدًا نفسيًا لوعيٍ جمعي عاش 17 عامًا من الحصار، يتنفس الإهانة، ويأكل الموت، ويتربى على شعور وجودي بالاختناق. في علم النفس الاجتماعي، يشرح “إميل دوركايم” في كتابه الشهير “الانتحار”، أن هناك نوعًا من “الانتحار الجماعي الواعي”، يحدث عندما تصل جماعة إلى شعور لا واعٍ بأن بقاءها بلا كرامة… هو الفناء الحقيقي. فيختار الوعي الجمعيّ التضحية بالجسد من أجل بقاء “المعنى”. وهذا تمامًا ما مثّله السنوار في تلك اللحظة. وبينما ينظر كثيرون إلى الحدث من زاوية “هل هذا قرار عقلاني؟”، فإن الإجابة الحقيقية تأتي من الفيلسوف الألماني “فالتر بنيامين”، حين كتب: “كل نهوض ثوري يحدث ليس بدافع التطلعات نحو المستقبل، بل بدافع اليأس من الحاضر.”. لقد كان 7 أكتوبر لحظةَ انفجار تاريخي لليأس، حيث بلغ الخضوع أقصى مداه، فتحوّل إلى سيف.

السنوار قرر أن تكون هذه اللحظة بوابة “كشف” كبرى، لا على المستوى العسكري فقط، بل الأخلاقي العالمي. فإسرائيل كيان محمي بآلة دعائية هائلة، تبدو دائمًا كضحية مثالية. أراد أن يُجبرها على أن تقتل حتى تسقط أقنعتها. لقد اختار السنوار أن يواجه، لا لينتصر عسكريًا بل ليدفع إسرائيل إلى تدمير نفسها أخلاقيًا. وهذا ما يحدث الآن. إسرائيل لم تهزم غزة بل تغرق في غزة. لقد سقطت صورتها. لم تعد “الواحة الديمقراطية” في الشرق المتوحش، بل باتت رمزًا للاستعمار، للتطهير العرقي، للإبادة. والسبب ليس عدد القتلى فقط، بل أنهم قُتلوا بعد أن تمردوا على الخوف. على السجن الجماعي. على انتظار الموت. ولعل المفارقة أن الشعوب الحرة في العالم فهمت ذلك. فهمت أن ما جرى هو ثورة بلا خطاب، وجُرأة بلا قناع. الطلاب في الجامعات الغربية، الشعوب في المظاهرات، المفكرون في المقالات، الكل بدأ ينزع الشرعية الأخلاقية عن الكيان. وهذا ما لم يكن ليحدث لولا انفجار السابع من أكتوبر. فـَـ “الفعل الرمزي العنيف” كما يسميه بيير بورديو، هو ما يعيد ترتيب المعاني قبل إعادة ترتيب الجغرافيا.

إسرائيل ربحت المعركة بالسلاح، لكنها تخسر الحرب على الشرعية، وهذا أخطر. لأن الهزيمة الأخلاقية تسبق دائمًا الهزيمة السياسية. وكذلك حدث مع أمريكا في فيتنام، مع فرنسا في الجزائر، مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. كلها انتصرت بالنار، لكنها انهارت عندما تعرّت أخلاقيًا. والفضل يعود لأولئك الذين اختاروا، كما قال جان بول سارتر: “أن يقولوا لا، حتى عندما يعلمون أن لا شيء سيتغيّر غدًا.”.”

الوقفة الرابعة… والمنتصر الحقيقيّ

بغضّ النظر عمّا جاء به الكاتب الراوي أعلاه، وعن صحّته من عدمها، لا ينكر المرء أنّ كلّ ما جاء به لافتُ وأنّ جزءًا منه على الأقلّ صحيح تمام الصحّة، ويفيدنا في الإجابة على الأسئلة التساؤلات أعلاه؛ حول الأفضل للقضيّة الفلسطينيّة. الوعي السائد لدى الإسرائيليّين ومفاده كما جاء أعلاه؛ أنّهم لا يمكن أن يُقبلوا في هذا الشرق الذي لا يفهم إلّا لغة القوّة والقمع ولذا فبقاؤهم مرهون بحرابهم المسنونة واصطفافهم الكليّ مع الغرب وفي المقدّمة أميركا. في حين أنّ الوعيّ السائد لدى العرب؛ فلسطينييّن وغيرهم أنّ لا مكان لإسرائيل في هذا الشرق وبقاؤها آني إلى يوم نهوض الأمّة حين يرضى الله عنها وهذا يتخطّى الحكّام فرضاء الدولار لديهم هو الغاية!

إن لم تغيّر الوعي السائد، وليس بالضرورة حاليّا، لكّنها هزّته حتّى الأعماق، ولعلّ البيّنة القاطعة هو ما تحويه “خطّة” ترامب بغضّ النظر عن تنفيذ كلّ ما فيها من عدمه، فالأطروحة فيها تغيير، ولو كان أوّليًا، لوعي سائد سيُسقِط على إسرائيل عاجلًا أم آجلًا، وبالتالي سيُسقِط إيجابًا على القضيّة الفلسطينيّة؛ أمّ القضايا في الشرق. وهذا يعيدنا إلى القول في ناصية هذه الوقفات؛ أنّه لا يمكن أن تنتهي هذه الحرب وبغضّ النظر عن شكل نهاياتها إلّا عن حالة جديدة استراتيجيّة في كلّ ما يتعلّق بالصراع العربي الصهيونيّ وعلى الغالب نحو الأفضل.

الوقفة الخامسة… والنصر البيروسيّ المهزوم

يُنسب مُصطلح “النصر البيروسيّ” إلى بيروس الإبيري، الذي أدّى انتصاره ضد الرومان في معركة أسكولوم عام 279 ق. م. إلى تدمير أغلب جيشه وأدّى إلى إنهاء حملته على إيطاليا، وتمنّى لو أنّه تعرّض للهزيمة، فنتائج نصره كانت أكثر مرارة من طعم الهزيمة. وهي معركة دارتْ رحاها في أسكولومْ، جنوب إيطاليا بين جحافل جيش الجمهورية الرومانية تحت قيادة القنصل بوبليوس موس، وقوّات المَلك بيروس الإبيري مَلك إبيروس. وانتهت المعركة بنصر باهظ الثمن لجيش بيروس، ومنها أصل المُصطلح العسكري المَعروف بـ «النصر البيروسي».

بغضّ النظر عن أيّ نصر تحقّق لأيّ من الطرفين وكلّ حسب ادعاءاته وتعليلها، وبغضّ النظر عن الاجتهادات الفكريّة أعلاه؛ اجتهادات الراوي واجتهاداتي، خلاصاتي وخلاصاته، إن لم يتحقّق أيّ هدف من الأهداف التي ذُكرت أعلاه ولأيّ من الطرفين، فيصح في سياقنا القول: إنّه “نصر بيروسيي”؛ انتصار من تكبد خَسائر كَبيرة حتى أنه يرقى إلى مَرتَبة الهَزيمة التي تلغي أيّ شعور حقيقي بالإنجاز أو تقوّض تقدّمَ المُنتَصر على المدى الطويل.

الوقفة الأخيرة… والجبّارون

ويظلّ الشعب الفلسطيني فعلًا شعب الجبارين بصموده وتحمّله كلّ عمليّات الإبادة هذه والمستمرّة منذ 77 عامًا، وهذا هو النصر الكبير!

سعيد نفّاع

10- 13 تشرين الأوّل 2025

من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى