زياد حلبي: صراع وجود لا حدود!

ليس من باب التنبؤ أو التكهن، لكن إذا لم يفرض العالم، يوماً ما، تقسيم هذه الارض المقدسة والمكدسة بدروب الآلام والنكبات إلى دولتين، يبدو لي أن هذا الصراع الممتد منذ أكثر من سبعة عقود، قد يتنفس قرنًا آخر قبل أن يهدأ. ليس لأنه معقّد سياسيًا أو لأن الوسطاء لم يحسنوا الصياغة، بل لأن جذره الحقيقي ليس الخريطة، بل الفكرة: ليس الخط الأخضر، بل الوعي الجمعي لكلا الشعبين.
فمنذ البداية، لم تكن القضية الفلسطينية–الإسرائيلية خلافًا على أين تنتهي الأرض، بل على من يملك حق الوجود فوقها. الفلسطيني يرى أن وطنه سُلب منه في لحظة كان فيها العالم مشغولًا بتضميد جراحه بعد حربٍ كونية. والإسرائيلي يرى أن دولته قامت على وعدٍ إلهيٍّ وتاريخٍ خلاصِيٍّ أعاد إليه مكانًا في التاريخ بعد قرون من التيه. بين هذين الإدراكين وُلدت مأساة لا تهرم، بل تتجدّد مع كل جيل.
في الخطاب الإسرائيلي الراهن، لا تكاد تجد فرقًا جوهريًا بين من يُوصَف بالليبرالي مثل يائير لبيد مثلا، وبين بنيامين نتنياهو الذي يقود اليمين المتشدّد: كلاهما يرفض عمليًا منح الفلسطينيين حقوقًا سيادية حقيقية.
الخطاب الإسرائيلي اليوم مزيج من التقدّم التكنولوجي والعقلية الدينية الاستيطانية، يقدّم نفسه كـ”مجتمع غربي متنوّر”، لكنه في العمق يعيش تحت ظلّ عقيدةٍ توراتيةٍ ترى في الأرض وعدًا لا يُناقش، وفي الآخر تهديدًا وجوديًا لا يُطاق بل ينبغي تحييده
. وقد كشفت استطلاعات الرأي الأخيرة داخل إسرائيل أن أغلبيةً ساحقةً أيّدت تهجير سكان قطاع غزة خلال الحرب الأخيرة، وأنّ فكرة «فصل الفلسطيني عن الجغرافيا» صارت جزءًا من المزاج العام، وليست حكرًا على الأحزاب اليمينية. أي أن الحلم الإسرائيلي لم يعد “دولة آمنة”، بل أرض بلا فلسطينيين .
وفي الجهة الأخرى، لا يبدو أن الفلسطينيين يرون تسويةً ممكنة خارج استعادة كامل الأرض من النهر إلى البحر. بالنسبة لمعظمهم، لا تعني “إسرائيل” سوى الاسم السياسي لنكبتهم عام 1948، حين قامت دولةٌ على أنقاض قراهم ومدنهم المدمرة . في وجدانهم الجمعي، أوروبا التي غسلت ضميرها من جريمة المحرقة، ارتكبت جريمة أخرى بتسليم وطنهم ليكون التعويض عن ذنبٍ لم يرتكبوه.
هكذا تلتقي روايتان لا تلتقيان إلا في النقائض: الإسرائيليون يعملون لفرض روايتهم الديمغرافية والتاريخية بالقوة والاستيطان رغم ذلك يشعرون ، حتى داخل اسرائيل، انهم اقلية ملاحقة فيما تشعر الاقلية الفلسطينية بانها صاحبة الأرض.. والفلسطينيون يقاومون بفكرة الذاكرة المستمرة والحق الذي لا يسقط بالتقادم. كلاهما يرى أن الآخر وجودٌ يجب تجاوزه لا التعايش معه.
وكما قيل: “حين يتحوّل التاريخ إلى مرآةٍ للهوية، تصبح السياسة ساحةً للعقيدة.” وهذا ما حدث هنا بالضبط. فمنذ اتفاق أوسلو، تآكل الإيمان بإمكان “السلام”، لأن أوسلو لم تعالج الجذر: من نحن؟ ومن يملك الحق في أن يكون هنا؟ وما بين أسطورة «شعب بلا أرض» وصرخة «أرض بلا شعب آخر».. يستمرّ المشهد نفسه يتكرّر بملامح مختلفة، كأنّ التاريخ الفلسطيني – الإسرائيلي يدور في حلقة مغلقة. القوة العسكرية الإسرائيلية تنتصر في المعارك، لكنها تخسر في المعنى.
والمقاومة الفلسطينية تنتصر في الذاكرة، لكنها تنزف في الواقع. وبين هذا وذاك، تواصل الأرض نزيفها. سيستمرّ الصراع قرنًا آخر، لأنّ كِلا الطرفين لا يبحث عن تسوية بل عن خلاصٍ على حساب الآخر. فالإسرائيلي يريد أن يربح الأرض والتاريخ والمستقبل معًا، والفلسطيني يريد أن يستعيد ما سُرق منه ليعيد للتاريخ توازنه المفقود.
وبين إرادتين لا تريان في الآخر سوى نقيضٍ لذاتهما، يبقى الجرح مفتوحًا، والزمان يدور في حلقة الدم ذاتها، كأنّ الحرب هنا ليست حدثًا بل قدرٌ يتجدّد كلما أشرقت شمس على هذه الأرض المثقلة بالذاكرة. وليس هذا تشاؤمًا، بل واقعية الفهم الأعمق، التي يمكن أن تلمسها حين تصغي إلى الناس العاديين من الجانبين: أولئك الذين لا يملكون سوى كلماتٍ بسيطة، لكنها تحمل في نبرتها كل ما في التاريخ من خوفٍ ومرارةٍ وإصرارٍ على البقاء..
إنها الحقيقة العارية كما تراها في العيون لا في البيانات: صراعٌ لا ينتهي، لأنّ كل طرفٍ يعتقد أن الآخر يعيش على حساب وجوده، لا على هامش حدوده!
من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com