, -

د. محمود أبو فنه: “ريحة الأمّ بتلمّ!”

* من سيرتي الذّاتيّة:

في ذلك اليوم، الأوّل من شهر رمضان المبارك، كان الطّقس حارًّا لافحًا، والنّفوس المؤمنة تكابد عناء الصّوم وشدّة الحرارة برضا وسكينة.

عندنا في البيت، ومنذ ساعات الصّباح، انهمكت زوجتي أمّ سامي بإعداد وجبة الفطور لجميع أفراد الأسرة من أبناء وأحفاد وحفيدات، وروائح الطّعام بدأت تتصاعد من القدور وتنتشر في أرجاء البيت.

تدريجيًّا، بدأت طلائع الأحفاد والحفيدات تتوافد على بيتنا العامر ومعهم أمّهاتهم؛ الصّغار ينطلقون للّعب والمرح ولمشاهدة برامج الأطفال، والأمّهات يتوجّهن لمساعدة أمّ سامي في تحضير وليمة الإفطار!

أمّ سامي، كعادتها كلّ عام، كانت تصرّ في اليوم الأوّل من شهر رمضان أنْ تدعو جميع أفراد أسرتنا – الأبناء وعائلاتهم – للإفطار في بيتنا، فيلبّون الدّعوة بكلّ فرح وسعادة!

يا إلهي! كم تفرح أمّ سامي بهذه “اللّمّة”، رغم ما يرافقها من صخب وضجيج وإرهاق!

كيف لا، وأنتَ ترى الصّغار يصرخون ويهلّلون ويبتكرون الحكايات والنوادر، ويمارسون الجري والقفز واللّعب، ويجوبون في جميع حجرات البيت بلا حدود!

ويا لخيال الصّغار وقدرتهم على الإبداع! بدون تخطيط، وبشكل عفويّ تراهم ينتظمون في طابور يشكّل “قاطرة” تتحرّك في كلّ زوايا البيت وتُطلق هديرًا من الأصوات الزّاعقة الحادّة!

هذه اللمّة تمنح الصّغار حرّيّة اللّعب والمرح والصّخب والفوضى بدون رادع أو عقاب!

وتزحف عقارب السّاعة، وتقترب ساعة الأصيل، وقبل سماع أذان المغرب بدقائق تكون الوليمة جاهزة، فالطاولات تأنِّ من حملها الثّقيل من طعام وشراب، وكلّ واحد “استحكم” في كرسيّه حول المائدة بانتظار لحظة الفرج.

رحتُ أرقب الوجوه الجائعة العطشى المتعبة؛ وجه واحد كان يشعّ بالسّعادة والحبور والرّضا، إنّه وجه زوجتي أمّ سامي، الأمّ والجدّة صاحبة القلب الكبير، الّتي تعطي وتعطي بلا حساب، والّتي تفرح بفرحة الجميع – من زوج وأبناء و”كنّات” وأحفاد وحفيدات – عندما يلتئم شمل العائلة في جوّ تسوده المحبّة والألفة والوفاق!

وفجأة، يرتفع صوت الأذان: اللهُ أكبر اللهُ أكبر…

فيضجّ الصّغار، وتنفرجُ أسارير الكبار، ويبدأ الإفطار ليخفّف معاناة موائد الطّعام!

هنيئًا لك، أمّ سامي، بهذه اللّمة الجميلة المفرحة السّعيدة! وهنيئًا لنا بهذا الينبوع الّذي لا ينضب من الحنان الصّادق!

**

** النّزاهة والمسؤوليّة في عمليّة التّعليم والتّعلّم!

 

يشكو المعلّمون والمربّون والمسؤولون ووسائل الإعلام من تفشّي ظاهرة الغشّ والنّقل في الامتحانات وفي كتابة الوظائف المدرسيّة والدّراسات والأبحاث لدى طلّابنا في جميع مراحل التّعليم: من الابتدائيّة وحتّى الجامعة!

وتكثر التّحليلات والتّأويلات والنّقد لهذه الظّاهرة السّيئة المعيبة:

فهناك من يحمّلون الطّلّاب المتعلّمين المسؤوليّة لهذه الظّاهرة.

وهناك من يحمّلون المديرين والمعلّمين والمحاضرين المسؤوليّة.

وهناك من يحمّلون جهاز التّربية والسّلطات المسؤوليّة.

وهناك من يعزو المسؤوليّة للآباء والأمّهات وتربيتهم.

وهناك من ينسب هذه الظّاهرة للجينات ولطبيعتنا!

وهناك من يرى أنّ هذه الظّاهرة هي واحدة من الظّواهر السّلبيّة

المنتشرة في المجتمعات المختلفة وعلى جميع الأصعدة!!

بحسب رأيي المتواضع وعلى ضوء تجربتي الشّخصيّة يمكنني القول إنّ هذا الأسلوب مرفوضٌ عندي منذ وعيتُ، فقد حرصتُ في حياتي، عندما كنتُ طالبًا أتعلّم وفي جميع مراحل تعلّمي ودراستي، وعندما أصبحتُ مدرّسًا ومحاضرًا، ثمّ عندما عملتُ مفتّشًا وموجّهًا، حرصتُ على أنْ أعتمد على نفسي، وعملتُ بجدّيّة أنْ يعتمد الآخرون على أنفسهم في الامتحانات والأبحاث، وفي جميع المهامّ والمناصب الّتي قد يشغلونها.

وبصراحة، أنا أعتبر الحفاظ على طهارة الامتحانات وكتابة الأبحاث، وعدم الغشّ والنّقل، أعتبر ذلك واجبًا قوميًّا من الدّرجة الأولى! ومن يلجأ لأساليب فهلويّة ملتويّة للوصول إلى غايته، يتعوّد على ذلك، ويسيء لنفسه أوّلا، ولمجتمعه وشعبه كذلك.

القضيّة عندي في الاساس قضية تربية وقيم قبل أنْ نصل للعقاب الصّارم.

إذا غرسنا قيم النّزاهة والطّهارة لدى الجميع – مديرين ومعلّمين وطلّاب – يمكن أن نحدّ من هذه الظّاهرة المزعجة والمؤسفة، بل يمكن التّغلّب عليها والتّخلّص منها.

أوّلًا: يجب غرس المسؤوليّة والاعتماد على النّفس لدى الأبناء منذ نعومة أظافرهم، وعلى الكبار – الأهل والمربّين – أنْ يكونوا قدوةً لهم في سلوكهم وتصرّفاتهم!

لا حاجة أنْ يقوم الآباء بحلّ الوظائف للأبناء الصّغّار، يكفي أنْ يوفّروا لهم الأجواء والظّروف المناسبة، ويمنحوهم الدّعم والتّشجيع، ويتابعوا دراستهم في المدارس، ويتعاونوا مع المعلّمين…

ثانيًا: يجب أنْ يتحمّل الطّلّاب مسؤوليّة الاعتماد على الذّات، والاستعداد للامتحانات أو كتابة الوظائف والبحوث والدّراسات، وبذل الجهود الصّادقة الجادّة لتحقيق النّجاح ولا يلجأون للغشّ والنّقل والتّنكّر للقيم الخيّرة!

إنّ “إدمان” الطّلّاب على استخدام وسائل التّواصل الاجتماعيّ وبصورة خاصّة استخدام الهاتف الخلوّيّ يمكن تقليص ذلك بتفعيل الطّلّاب في المدارس والحصص، وفي توفير النّشاطات والفعاليّات اللّا منهجيّة، وفي تشكيل المجموعات الرّياضيّة أو الفنّيّة أو الإبداعيّة وغيرها…

ثالثًا: يجب أن يتحمّل المعلّمون والمربّون مسؤوليّة غرس قيم النّزاهة والطّهارة في نفوس طلّابهم، وأنْ يكونوا قدوة لهم، وطبعًا، يجب أنْ يتحمّلوا المسؤوليّة التّامّة عن تدريس الموادّ المطلوبة، وتحفيز الطّلّاب على المشاركة وفهم ما يتعلّمون بعيدًا عن التّلقين والبصم، وعليهم التّركيز على عمليّة التّعلّم النّاجعة وليس على حصول طلّابهم على العلامات العالية – وأنا لا أقلّل من قيمتها – وعليهم العمل على تنمية التّفكير وحلّ المشكلات والتّحليل وإبداء الرّأي الشّخصيّ المعلّل لديهم.

صدّقوني – وبناءً على التّجارب والأبحاث والدّراسات – نستطيع أنْ نتغلّب على هذه الظّاهرة إذا غيّر المعلّمون أساليب التّدريس والتّقييم والمعاملة للطّلّاب، فلو حظي الطّلّاب بالدّعم والقبول والاحتواء، ولو تمكّنوا من المادّة وهضموها وفهموها، ولو تعوّدوا على الاستقامة لما وصلنا إلى هذا الوضع المحزن!!

وأشير في هذه العجالة إلى دور مديري المدارس والمفتّشين المهمّ في ترسيخ النّزاهة والاستقامة والاعتماد على الذّات، فلا حاجة للتّفاخر والمباهاة بنتائج طلّابهم ومدارسهم وحصولهم على العلامات العالية بدون تذويت القيم الإيجابيّة الحميدة وبناء الإنسان المسؤول المتّزن الواثق من نفسه وقدراته، والّذي يمتلك المهارات والقدرات للتّعامل مع ظروف العصر المتغيّرة على الدّوام!

وختامًا: أنّني أدعو للالتزام بقيم النّزاهة والطّهارة (في الامتحانات وغير الامتحانات) لا خوفًا من العقاب، بل بدافع داخليّ نابع من موقف خلقيّ يُمليه الضّمير الحيّ الواعي، وتغذّيه الكرامة والثّقة بالنّفس!

 

 

من المهم التنويه أن موقعنا يلتزم بالبند 27 أ من قانون الملكية الفكرية (סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים). ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المواد المختلفة المنشورة لديه. وفي حال كانت لديكم اية ملاحظات تتعلق بحقوق الملكية، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة او على ايميل: almasar@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى